عاجل

«العازف» قصة قصيرة للكاتب سمير لوبه

سمير لوبه
سمير لوبه

ذات مساءٍ شتوي، وقدْ توقفت الأمطارُ.  حديقةُ الشلالاتِ، أقطعها سيرًا على الأقدامِ اختصاراً لطريقي في ضوءِ القمرِ، أسرعُ الخَطوَ؛ فالسكونُ يسودُها؛ لا أثرَ فيها لدماءِ الحياةِ؛ قدْ خلت من روادِها، تخطف مسامعي معزوفةُ “كمان " تأسرني، فإذا به على كرسي الحديقةِ الخشبي عازفُ كمانٍ مُسن في ثيابٍ رثةٍ، يضمُّ عليه آلةَ الكمانِ، يظهرُ جلياً على ملامحِ وجهِه ما تطويه نفسُه من شيخوخةِ الروحِ. لا يؤنسُه شيءٌ غيرُ آلتِه، مُنكفئ على نفسِه لجوارِ الشجرةِ العجوزِ على حافةِ الحديقةِ، ورُغم أنَّ العازفَ لا يُظهرُ أي علامةٍ من علاماتِ الحياةِ غيرَ العزفِ الذي يُغذيه الفقرُ والعزلةِ، يبادرُني حديثُ نفسي، وقدْ أبطأت خطواتي ريثَما ينتهي من مقطوعتِه التي تعتريها روحُ الغضبِ، أسبحُ مع الكورداتِ والأبعادِ الصوتيةِ، تأسرُني زخرفةُ النغماتِ، تدهشُني مهارتُه في استخدامِ القوسِ وانسجامِ مهاراتِ اليدِ اليمنى مع اليدِ اليسرى؛ مما جعلني أهيمُ محلقاً في سماء النغم:

- هكذا هم المُبدعون حتى في أحلكِ لحظاتِهم ولو كانوا على حافةِ الموتِ يتعلقون بطوقِ إبداعِهم للخروجِ من وحشتِهم ومحنتِهم الإنسانيةِ (أقول لنفسي) .

وإذا بي أرى في العازفِ المُسنِ تصويراً لأقصى حدودِ الفقرِ والعزلةِ فتنتابُني مسحةُ حزنٍ قد امتزجت بالشفقةِ لحالِه المترديةِ، مازال عزفُه يأسرُ روحي؛ فيجذبُني مثل الفراشةِ للضوءِ، ينتبهُ لوجودي فيتوقفَ عن العزفِ:

- آسفٌ للمقاطعةِ ؛ عزفُك أبهرني؛ وأسرتني مقطوعتُك.

ترتسمُ على وجهِه ابتسامةٌ باهتةٌ يغلفُها حزنٌ دفينٌ يملأ روحَه، يتحسرُ على زمانٍ كان فيه مرغوباً، والآنَ قدْ صار رُكامًا من الماضي؛ لا ينتبه لوجودِه إنسان:

- لا عليك يا سيدي. كمْ يسعدُني اطراؤك على عزفي.

- في الحقيقة عزفُك رائعٌ ؛ يحلقُ بسامعِه إلى عنانِ السماءِ.

- أشكرُك لذوقِك.

- لا تؤاخذْني.  ما الذي يدفعُك للعزفِ في مثل هذا المكانِ الموحشِ وتلك الأجواءِ الشتويةِ لاسيَّما الوقتُ متأخرٌ؟!!

يجيبُني بصوتٍ خفيضٍ، وقد سالت دمعةٌ لم يستطعْ منعَها:

- إن كنت من هواةِ الموسيقى أكيدٌ قد سمعت بي. أنا “رمزي جلال " عازفُ الكمانِ الشهيرِ، كان ذلك في نهايةِ الخمسينياتِ أيامَ كانت مسارحُ وكازينوهاتُ الإسكندريةِ تفيضُ بأرقى الفنونِ.

- تشرفت بك يا فنانُ. حقاً أعلمُ أنَّ الإسكندريةَ كانت وجهةَ الفنونِ.

- بل قل قبلةً لعشاقِ المسرحِ والموسيقى والغناءِ. كان زمناً جميلاً .

- لكنَّ الوقتَ متأخرٌ ، والليلةُ مظلمة شديدةُ البرودةِ ، هل عدت لمنزلِك ؟

- فعلاً قدْ حانَ وقتُ رحيلي. 

- هل تعتادُ الجلوسَ في حديقةِ الشلالاتِ؟

- أنا هنا كلُ ليلةٍ .

- تشرفت بك يا فنانً ، وأكيدٌ سأعودُ مراتٍ عديدةٍ ؛ أمتعُ روحي بعزفِك الراقي.

- أشكرُك. هل تكرمت وأمسكت بيدي لأعبرَ الطريقَ؟

تأبط ذراعي ، يخطو بأناةٍ وترو، تتهدجُ أنفاسُه المتعبةُ؛ أقررُ أن أرافقَه إلى منزِلِه ، وبالفعل رافقتُه حتى وصلنا إلى منزلٍ قدْ أنهكته السنواتُ الطويلةُ في حارةٍ ضيقةٍ ، تشتدُ فيها العتمةُ ؛ نتحسسُ موضعَ أقدامِنا ، يزجُّ بابِ حجرةٍ بجوارِ سلمِ خشبي متهالك ، يضيئ مصباحُ جازٍ ، فإذا بأثرِ الخرابِ جلياً ؛ ليس في الحجرة سوى سريرٍ ومنضدةٍ صغيرةٍ ، يدعوني للجلوسِ على كرسي وحيدٍ تعلوه نافذةٌ ذات قضبانٍ حديديةٍ يتدلى منها حبلٌ غليظٌ  ، يجلسُ على حافةِ سريرِه ، تطوفُ عيناي تتفحصُ المكانَ ، خيوطُ العنكبوتِ تملأ الأركانَ ، الجدرانُ يعلوها غبارُ الإهمالِ ، آلةُ كمانٍ محطمةٌ قدْ كُسِرَ قوسُها ملقاةً في إحدى الأركانِ ، يبادرُني بصوتِه الخفيضِ ،  وقدْ بدا عليه انكسارُ العَوزِ والعزلةِ  :

- عفواً ليس لديَّ ما أقدمُه لك  .

- لا عليك يا أستاذ رمزي .

يلفتُ نظري صورةٌ قديمةٌ لم يقو غبارُ السنين أن يخفيَ جمالَها ، راقصةُ باليهٍ تقفُ ممشوقةً  مثل طائرٍ رشيقٍ  .

- هل تهتمُ بفنِ الباليهِ يا أستاذ رمزي ؟

يلقي بنظرةٍ حزينةٍ على الصورةِ ، يمسحُ دمعةً قدْ سبقت يدَه إلى خدِه

- تلك التي تراها في الصورةِ هي مقطوعتي التي لم تكتملْ ، جمع بيننا الفنُ ، وتعاهدْنا على الزواجِ ، وذات ليلةٍ عندَ عودتِنا من المسرحِ جلسْنا في حديقةِ الشلالاتِ ؛ أبثُها حبا فتهديَني حناناً ، فإذا بسيارةٍ فارهةٍ ينزلُ منها مخمورٌ يتوجهُ نحونا  ؛ يشهرُ في وجهنا سلاحاً ؛ يريدُ أن يأخذها عنوةً  فما كان منها إلا صرخةٌ مدويةٌ  ؛ ليستقرَ سكينِه في قلبِها ، تسقطُ أمامي صريعةً ؛ على الفورِ قمت بخنقِه لم أفلتْه حتى ألحقتَه بها ، وقضيت زهرةَ عمري في غياباتِ السجونِ ،  أبكيها ليلاً ونهاراً ، لذلك تجدُني كلَ ليلةٍ أجلسُ حيث فقدتها في تلك الليلةِ المشئومةِ  .

- آسفٌ أن جددت أحزانَك يا أستاذ رمزي  .

تتعلقُ عيناي بالصورةِ ، فإذا بعينيها تتبعُني  وكأنَّ الحياةَ قدْ عادت إليها  ؛ ينتابُني الخوفُ  ؛ أنتفض واقفا :

- سأنصرفُ يا أستاذ رمزي  .

يجيبُني بصوتٍ متهدجٍ :

- لا تنساني أرجوك  .

تعتصرُ تلك الكلمةُ قلبي ، أسيرُ في الحارةِ ، أرى ضوءًا هزيلاً قدْ افترش الأرضَ ؛ ينبعثُ من بابِ دكانٍ ، أسيرُ إليه ربَّما وجدت فيه شيئاً من طعامٍ أرسلُه للأستاذ رمزي  .

- لو سمحت  بعضُ جُبنٍ وخبزٌ ولبنٌ  .

- حاضر

- تفضل  حسابك  .  هل أستطيعُ أن أطلبَ منك توصيلَهم إلى الأستاذ رمزي في ذلك البيتِ عندَ ناصيةِ الحارةِ  ؟

البائعُ  في دهشةٍ  :

- أستاذ رمزي !!  .. أستاذ رمزي  تعيش أنت  ؛  وجدناه منتحراً منذ سنين ، والبيتُ الآنَ مهجورٌ .