«السماء لا تمطر نيرانا» قصة قصيرة لـ«سوزان كمال»

الأديبة سوزان كمال
الأديبة سوزان كمال

مساء ثقيلٌ مثل كل مساءاتنا منذ ذلك النهار الفارق. أجلس أمام شاشة التلفزيون. أشاهد حطام البيوت، بقايا الصور، صراخ الأطفال، وأسمع البكاء. صامت بيتي بعد أن توقفنا عن النقاش بشأن من وما، ليس لأننا اعتدنا مشاهد الموت الدامية، لكن لأن العجز على مدار شهرين عن فعلٍ يوقف الوجع قد هدَّنا، فتوحدنا بالألم صامتين.

لم تتمكن أثواب الوطن أو شارات النصر أو نوال الشهادة من تجميل الموت. أكره الموت. الموت قبيح، قاس وعنيف. وحده يستطيع أن يمد أصابعه الطويلة وينزع من روحك البهجة، ثم يخرج لك لسانه وهو يراك يائسًا، ضعيفًا وحزينًا.

استسلم الجميع للنوم، وأنا جالسة على أريكتي أسند ذقني المبلل بالدمع على يدي المعقودتين فوق ركبتي. أطالع الصور وشريط الأخبار النازف موتًا. ثم يأتون، نعم، هم؛ يظهرون سريعًا ويختفون أسرع. أفرك جبهتي. أحاول التحقق من وجودهم أتفرس ملامحهم. أطفال، كلهم أطفال. ينهضون من أكفانهم البيضاء، يفكون الأربطة بغضب، يسألونني عن أسمائهم وبقية أعضائهم وعظامهم التي تكسرت. لا اُجيب، أضع يدي على فمي كاتمة صرخاتي، أريد أن أقسم لهم أني لا أعرف بأي ذنب قتلوا؟

يقفون على كومة من كتب مدرسية تمزقت صفحاتها وتناثرت بفوضى، ينظرون بحيرة إلى دراجات ملطخة بالدماء، ودُمى. يتلمسون أدراجاً حملت أسرار أيامهم المدرسية. يسألونني هل نستحق أن يُفعل بنا هذا، ولماذا سكَّتم؟  يكررون السؤال وأنا لا أستطيع الإجابة، لا أنطق.

ثم يختفون من جديد ويظهرون.

أمد لهم يدي قبيل الاختفاء بلحظات قليلة هذه المرة، أريد أن أهدهدهم، أعتذر، فلا تصلهم يدي ولا صوتي ويختفون

أهرول إلى مطبخي، أملأ الأطباق بالطعام، أضعها على الأرض، أضع في كل طبق ملعقة. أفتح ثلاجتي، أُخرج كل ما بها من ثمرات الطماطم، أوزعها في أركان الصالة. أصطنع النوم ليلتقطوا حبات البندورة، وانتظر، لا يأتون.

 

أنتظر.. ينفتح شيش شرفتي طائعًا. وأنا أنظر دهشة لسحابة تدخل بيتي يجلس عليها طفل أبيض ينظر لبندوراتي المنثورة، ويبتسم بحزن. يتوقف بسحابته في منتصف الصالة.  يلتف حوله الأطفال الذين كانوا هنا. يشير لهم ساكتًا أن يصطفوا، فيقفون في صفوف قصيرة منتظمة، وأنا أفتح عيني بحذر فتحة صغيرة جدًا تمكنني بالكاد أن أراهم.

يتنفس الصبي بعمق، فتكتسب ملامحه الطفولية صلابة رجولة مفاجئة. يترك سحابته، يقف أمام الصفوف، يمسح الأرقام التي على الوجوه، ويكتب مكان كل رقم اسمًا بطول الجسد. أتابعه بشغف، وانا أعد عشرات الأسماء على الجسد الواحد؛ احمد بن علي بن حسين بن عمر بن صلاح ابن ابن ابن ابن.

عمل طويل وشاق وأنا أكتم أنفاسي وأتمنى ألا يستيقظ أحد، فيضطرهم إلى الاختفاء من جديد. تنتهي مهمة الأسماء، ثم يبدأ الرجل الصغير في تضميد الجراح، ورتق التمزقات، وجبر الأرواح والأحلام. يبتسم الصبية، يصنعون دوائراً، يتراقصون في صخب. دائرة تمور يمينًا والأخرى يسارًا والبنات يتناوبن الرقص في منتصف كل دائرة، بينما يعلو الصوت، صوتًا قويًا خاليًا من أي انكسار مرددًا: وعهد الله ما نرحل وعهد الله ما نرحل، وعهد الله ... وانا أنتفض من روعة المشهد الملائكي المقدس هنا في بيتي. يتلألؤون بهجة ثم يخفت الصوت رويداً رويدا حتى يتوقف. يجلس الأطفال في صفوف، يمدون أيديهم شاهرين أصابع السبابة جميعًا، ويهمهمون.

يحكون وأسمع وأبتسم لطفولتهم وبراءتهم.

كل شيء الآن هادئ هدوء ليلة مقمرة بعد مطر عاصف، إلا من صوت كطنين نحل يعلو، ليتحول إلى نشيج متقطع لطفلة من بينهم تشكو: حصدونا حصدًا، حصدونا ...، حصدوا ... . يمد لها الصبي يده ويتطلع إلى السماء راجياً، فتبدأ الزهور في التساقط؛ زهور ملونة، مختلفة الأحجام والأشكال، تملأ بيتي. نرفع رؤسنا ونمد أيدينا، نستقبل الزهرات بفرح.

أغمض عيني وقد صارت صالتي باقة ورد كبيرة. يدنو الصبي الرجل من الطفلة الباكية، يربت على كتفيها الصغيرتين يملأ كفيها بالورد ويتمتم: اطمئني، السماء لا تمطر نيرانًا!.

في الصباح وأنا أستعد للذهاب إلى عملي كنت أمر بين الزهور بحذر خشية أن تلمسها قدماي.