يوميات الاخبار

العجوز.. وبيت «كرموز»!!

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

لكن يظل الحنين إلى تلك الحوائط والجدران مهما أصابها الضعف من بعد قوة أنكاثاً.. هى كنز الذكريات.. هى الوطن الصغير

عندما وقف العجوز بعد سنوات من الغياب أمام البيت القديم الذى شهد ميلاده وصباه وشبابه ورجولته.. تطلع طويلا إلى بيت كرموز وقد جرى عليه ما جرى على العجوز اشتعل الطوب شيبا وشقوقا وانحنى كل شيء فى البيت كما انحنى ظهر العجوز.. بل وامتدت التجاعيد إلى النوافذ والشبابيك.. هنا سأل نفسه:
− هل البيوت تكبر وتشيخ وتعانى الوحدة كما يحدث مع سنوات العمر التى تمضى إلى الكبر وكأنها تتلاشى تدريجيا مثل صورة فى فيلم سينمائى أراد لها المخرج أن تذهب فى نعومة ويستبدلها بأخرى.. مثلما تتغير الظروف والأحوال.. والأماكن؟ وهل بيت كرموز القديم هذا.. وقد صنعوا له جبيرة من الخشب.. لعلها تحميه من سقوط قادم لا محالة.. وكأنها الأيدى التى تحنو على العظام التى وهنت والبصر الذى ذهب والصحة التى داهمتها كل أوجاع العظام والقلب؟
تبدو واجهة البيت مثل فم العجوز.. فارغة إلا من أسنان قليلة تفرقت فى الفم الذى تحول إلى ما يشبه الكهف المظلم.. لكن يظل الحنين إلى تلك الحوائط والجدران مهما أصابها الضعف من بعد قوة أنكاثاً.. هى كنز الذكريات.. هى الوطن الصغير.. كما قال الشاعر محمود درويش.
وتسأل: ما معنى كلمة وطن؟ سيقولون: هو البيت وشجرة التوت وقنّ الدجاج ومساكن النحل ورائحة الخبز والسماء الأولى وتسأل بعد ذلك: هل تتسع كلمة واحدة من ثلاثة أحرف لكل هذه المحتويات وتضيق بنا وعلينا؟!
هنا.. تعلمنا أحرف الهجاء الأولى.. ومشينا خطواتنا القافزة العَجول إلى ما نجهل وما نعلم.. وما نحب وما لا نحب.. سقطنا ونهضنا.. واكتشفنا.. تلك الدنيا من حولنا حتى تراكمت الحوادث والمشاغبات والحكايا لكى تصبح جبلا صعدناه حتى وجدنا أنفسنا.. فى مبتدئه وأوله.. وكأنْ نظن أننا بلغنا معه المنتهى.. وتلك الأيام نداولها بين الناس والطبيعة والحجر..
ويسألون نزار قبانى عن البيت فيقول:
بيتنا القديم نهاية حدود العالم عندى انه الصديق والواحة.. والمشتى والمصيف أستطيع الآن رغم بُعد مسافة الفراق عنه أن أعد مسامير أبوابه وأستعيد آيات القرآن المحفورة على خشب قاعاته وجدرانه.. وأن أعد بلاطاته واحدة واحدة وأن اصف على وجه الدقة جلسة أمى تجهز لنا طعامنا وقهوة أبى.. فى المدخل.. وأبناء الجيران كأنهم همزات الوصل وقد انقطعت فى زمن وسائل الاتصال التى باعدت وإن فتحت أبواب القرب بالصوت والصورة.
ريح الأحبة
لمست غبار البيت ثم شممته
فمازال من ريح الأحبة زاكيا
تنهد باب الدار حين لمسته
ومال نخيل البيت يهمس راجيا
أنادى وما فى البيت إلا عناكب
واطياف اشباح تحوم ورائيا
آه يا بيت كرموز أراك تبكى على بيوت حولك ومن أمامك ومن خلفك قد سقطت من تلقاء نفسها أو انتحرت بعد أن وجدت نفسها غريبة على أرضها.. وقد عصفت التحولات فلم تعد قادرة على الصمود.. وما الذى يختلف فيه بيت كرموز عن بيت الانفوشى والعصافرة وكوم الدكة حيث سأل سيد درويش ابن هذا الحى مغنيا: البحر بيضحك ليه؟.. ولكنه رحل قبل أن يغنى والبيت بيعيط ليه؟.. لا ضحكة البحر أعلنت عن بهجته.. ولا دمعة البيت أعادت إليه احبابه وزفيره وشهيقه بعد أن صدرت ضده أحكام  بالإزالة عقابا له على عناده أمام عمارات ارتفعت على أعمدة من الاحتيال والكذب فسقطت بمن فيها وهى بعد لم تستخرج شهادة ميلادها.. بينما البيت العجوز صامد فى وجه كل ما جرى حوله.. شاهد على عدة عصور جيلا بعد جيل.. ولو أنه كتب ما رأى لنافس كبار أهل القلم فيما كتبوا من قصص وروايات.. وإذا كان الكاتب الأمريكى ارنست همنجواى قد كتب قصته الشهيرة: العجوز والبحر.. فلماذا لا نجد رواية جديدة بعنوان «العجوز والبيت»؟ والناس تعيش فى البيوت أكثر مما تعيش فى البحر.. وهو للجميع.. لكن البيت يخصك.. فيه أنفاسك وحوائطه تعرفك وتحتضنك إن غبت عنها.. يتغير مزاجها بحضورك وتصيبها الوحشة لغيابك.
عجوز همنجواى نزل إلى البحر بحثا عن صيد.. وعجوز كرموز نزل إلى الحى بحثا عن حياة عاشها ممكن للجدران والسلالم المكسورة أن تحكيها.. حتى لو حلت خيوط العنكبوت محل من راحوا.. وقد قالت الكاتبة «غادة السمان» فى واحدة من رواياتها:
معك اقمت فى بيت من خيوط العنكبوت لكنى عرفت معنى الاستقرار!
ولكنها لم تقل إن البيوت تستر العورات وترفع الرايات وبها تتم الفتوحات.. وتكتمل الانتصارات.. المحتل الغاصب يكتب عن البيت الذى أخذه.. وصاحب الأرض والحق يكتب عن البيت الذى سيعود إليه مهما طال المدى والخائن هو الذى سرق من بيت أبيه لكى يطعم اللصوص.. لا الأب سامح ولا اللص شكر.. لأن البيت كرامتك وشرفك.
فماذا لو نطقت البيوت وانفجرت اسرارها جيلا بعد جيل وغرفة خلف غرفة.. واحدة فيها صلوات واخرى فيها انحرافات وثالثة فيها مشاحنات ورابعة للغراميات وخامسة للبحث والدراسات.. وسادسة للمؤامرات والخيانات؟ لكن ماذا نملك إلا أن نحيى المنازل بالسلام على بخلها بالكلام وعلينا أن نسأل أنفسنا: كم منزلا فى الأرض يألفه الفتى؟!
فهل يولى القلب وجهه شطر بيت الله الحرام؟ أم.. تلقى به المظالم إلى بيت العدالة؟ أو يسعى خلف حصانة يرجوها خلف ستائر بيت الأمة وبرلمانها؟
إلا من شطح خياله وحلق فى سماوات أخرى وهو يدق أبواب بيت الشعر ويبنى قصيدته حرفا بعد حرف.
ومن بيت الداء حيث البطون التى لا تشبع.. والجائعة التى تبحث عن لقمة.. إلى من يسكن بيت العنكبوت فإذا به عند أول لمسة يصبح خبرا من الماضى كأن لم يكن.. وتتعدد البيوت.. فهل يصل بك تعدادك إلى بيت المقدس.. يبحث عن صلاح الدين الجديد وقد اعطى من لا يملك لمن لا يستحق.. وضاع قانون الانسانية تحت سنابك خيل الظلم والجبروت وهم يتغافلون ويتجاهلون أن دولة الظلم ساعة وأن دولة الحق إلى قيام الساعة.
هذا بيتى
يقول لنا أديب نوبل والجمالية نجيب محفوظ: ملعون ذلك البيت الذى لا يطمئن فيه إلا الجبناء الذين يغمسون اللقمة فى ذل الخنوع ويعبدون مذلهم.
ويقول الحكيم فيما مضى.. أنا لا أسكن بيتى.. لكنه يسكننى.. هو أنا ويحق للبيوت أن تشهد علينا.. وهى التى خلعنا تحت اسقفها كل الحجب.. فأصبحت تعرفنا ربما أكثر مما نعرف أنفسنا.
فماذا لو وقف هذا البيت الفلسطينى القديم أمام مجلس الأمن.. وعلى مرأى ومسمع من العالم فى جمعيته العمومية.. يحكى تاريخ اغتصابه.. ولسانه العربى الفصيح الذى جرى قطعه واستبداله باللسان العبرى.. لكنه أبى واستعصم إلا أن يكون عربيا حتى الرمق الأخير.. وهو ينشد ما جاء به أمل دنقل:
لا تصالح.. ولو ناشدتك القبيلة باسم حزن «الجليلة» أن تسوق الدهاء وتبدى لمن قصدوك القبول.. سيقولون: ها أنت تطلب ثأرا يطول.. فخذ الان ما تستطيع: قليلا من الحق.. فى هذه السنوات القليلة.. انه ليس ثأرك وحدك لكنه ثأر جيل فجيل.
فهل يرد بيت كرموز ويحكى هو الاخر.. كيف تبدلت اسكندرية الرقى والروعة.. وتقف مكتبة الاسكندرية على خط المواجهة الأولى تدافع بكل التاريخ والنبل والوعى عن مدينتها الخالدة.. التى وقع فى غرامها الشاعر والأديب والأبطال وهم يواجهون اساطيل العدوان القادمة من البحر عبر الأزمنة.. فما استكانت ولا استسلمت.. وانظر كيف حول غرامه بها إلى حكايات تروى إلى ما شاء الله.. إنه أسامة أنور عكاشة صاحب «زيزينيا والنوة والراية البيضا» التى قالت كل شىء بأبسط الأشياء.. واسألوا «عفاريت السيالة».. حتى إذا ذهبنا إلى الأديب إبراهيم عبدالمجيد قال لك ولكم جميعا:
لا أحد ينام فى الإسكندرية!
فهل يمكن للإسكندرية نفسها أن تنام.. وأن تموت بيوتها وهى واقفة وتأخذ معها كل هذا المجد.. كل هذا العمر.. كل هذا التاريخ.. كل هذا الوهج؟!
بيت كرموز.. قصيدة.. كتبتها الاسكندرية بحضارتها، بدمها، بدموعها.. والشعر أبدا لا يموت وإن مات صاحبه وطواه النسيان.. وهى ابدا ليست عبارة للماضى.. ولا هى الدروشة فى محرابه.. هروبا من الحاضر.. فقد كان توفيق الحكيم الذى كلم عصاه وحماره.. يقول:
إن من واجب الكاتب عندما يفتح عينا على الماضى الغائر والحاضر المستقر أن يفتح العين الاخرى على المستقبل الآخذ فى التكوين عند الأفق.
وقانون التعامل مع البيوت رصده القرآن الكريم.. فإن دخولها يستلزم الإذن من أصحابها وأن ندخلها من أبوابها.. وقد وردت كلمة البيت فى كتاب الله ٤٦ مرة بتنويعات مختلفة مفردة أو مجموعة.. ومن آداب التعامل معها: «لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ» (النور ٢٩)
وقد صدق الشاعر العربى القديم حين قال:
لَكِ يا مَنازِلُ فى القُلوبِ مَنازِلُ
أَقفَرتِ أَنتِ وَهُنَّ مِنكِ أَواهِلُ
يَعلَمنَ ذاكِ وَما عَلِمتِ وَإِنَّما
أَولاكُما يُبكى عَلَيهِ العاقِلُ
وقال ابن سنان الخفاجى:
أعفَى المَنازِلِ قَبرٌ يُستراحُ بِهِ
وأفضلُ اللُّبسِ، فيما أعلمُ الكفن
إنّ الذينَ على وَجهِ الثّرى وُطِئوا
يُشابهونَ أُناساً، تحتَهُ دُفِنوا