«بائعة الشاي» قصة قصيرة للكاتبة أميرة عبد العظيم

الكاتبة أميرة عبد العظيم
الكاتبة أميرة عبد العظيم

كالعادة منذ أن بدأت الحرب أصبح بيتي هو الشارع لرصد كل ما يحدث ليل نهار من تطورات الأوضاع الدامية في شوارع غزة بحكم طبيعة عملي كصحفي.

وأنا جالس متكئاً على سور المخيم وقعت عيني من بعيد على طفلة صغيرة جميلة جدا لا يتجاوز عمرها ثماني سنوات، تحمل في يدها اليمنى براد شاي، وفي اليسرى كاسات بلاستيكية، أشرت لها من بعيد وبصوت عالٍ حتى تسمعني: تعالى

جاءت إلىّ مسرعة والابتسامة تنير وجهها

سألتها: ما اسمك

ردت بصوت خافت: شروق

: ما هذا يا شروق

ردت: براد شاي وكاسات

: تصنعين الشاي وتحملين هذا البراد الثقيل والحار وأنتِ في هذا العمر وذلك الجسد النحيل؟

: شو أسوى يعني، بيتنا اتهدم، كتبي راحت، ملابسي ولعت، حتى عروستي استشهدت مع عيلتي كلها أمي وأبوي وأخوي ما صار عندي غير أنا وأخوي الصغير "حمد" عنده سنتين وأختي الكبيرة "سما"، يارتهم خدونا معهم عند ربنا في الجنة وما سابونا..  ليه عمو عيلتي ما أخدونا معاهم؟!

: حبيبتي ربنا اختارهم ولسه احنا دورنا مجاش، يا الله امنحنا الصبر والثبات والقوة شروق فطرت قلبي

: الحرب دمرتنا ومزقت أجسادنا ونفوسنا صرنا أشلاء في كل مكان..

ولأُهدئ من روع الكلام قلت: صُبى كاسة شاى حبيبتي لي وللشباب

 شروق: حاضر عمو

تعطينا الشاي وهي مبتسمة بشفتيها الوردية، وعيناها الخضراوان تتلألأ فيهما قطرات الدموع، وأنا أحدث نفسي كم أنتِ طفلة جميلة وبريئة، حتى نيران الحرب القاسية، لم تخفِ جمالك ولا براءتك، جمالك من جمال غزة

 

انتهينا من شرب الشاي الجميل من يد شروق، أعطيتها مبلغ من المال، وإذا بشروق تبحث عن الفكة في جيبها الصغيرة وتعطيني إياه

: ما هذا ابنتي

: الباقي عمو نحن لا نأخذ إلا حقنا، أمي وأبويا قالوا لنا كدة

تبسمت في وجهها لشدة إعجابي بكلامها على قدر صغر سنها وجسدها، وعدت قائلا مفيش مشكله حبيبتي ده ثمن الشاي، والباقي اشترى عروسة لكِ، لكنها رفضت ألا تأخذ إلا حق الشاي وتركتنا وذهبت ومازال كفها المتناهي في الصغر يحمل ذلك البراد الثقيل، ثَقُلَ البراد على يديها ثِقَل الأرض تحت قدميها.

 

«شروق» عندما تشرق الشمس كان يجب أن تحمل شنطة الكتب المدرسية وأن تقف في طابور الصباح وتغنى كسائر أطفال العالم كله في ذات عمرها وتلعب بدميتها التي حطمتها أوزار الحرب كما دمرت بيتها وصارت بلا مأوى يتيمة الأبوين وكسر جناحيها  قبل أن يقوى...

 

ذهبت شروق وشرد ذهني قليلاً، فكّرت أن أشتري لها دميه لأُدخل الفرح والسعادة على قلبها، بعد يومين كانت الهدنة سعدت كثيراً كما سعد الجميع وفعلاً استطعت خلال أيام الهدنة شراء دمية جميلة لشروق وبعض الكتب وشنطة مدرسية خضراء بلون عينيها، كانت الهدنة قد انتهت.

في صبيحة نفس يوم انتهاء الهدنة ذهبت إلى نفس المكان ولكني لم أجد شروق ولا حتى براد الشاي، المكان تبدل، الظلام أسدل ستائره نهارا من شدة الدخان ولهيب النيران

 

 

كانت هنا حياة...ذكريات.. قصص... حكايات حب وأفراح تبدلت كلها إلى أحزان، ذهبت شروق وإخوتها ليلحقوا بركب الشهداء.