لماذا يكره المثقفون بعضهم؟

صدر حديثا للدكتور جمال حسين على .. الإبداع أشرس نضال من أجل الحرية

كتاب الإبداع أشرس نضال من أجل الحرية
كتاب الإبداع أشرس نضال من أجل الحرية

د. مياسة سلطان السويدى 

كتب دافيد هيوم فى رسالة إلى الطبيعة البشرية: “لا يتولد الحسد عن التباين الشديد بيننا وبين الآخرين، بل على العكس، الحسد وليد التقارب”، مما يعنى أن هناك أشخاصًا غارقين فى النعم لا يطالهم الحسد أو الكره لأنهم خارجون تماما عن المجموعات المرجعية، لكن (لماذا يكره المثقفون بعضهم؟) عنوان لكتاب صدر حديثا للدكتور جمال حسين على - روائى وكاتب عراقي، حاصل على الدكتوراة فى الفيزياء والرياضيات من جامعة موسكو وله الكثير من الإصدارات الأدبية والثقافية المميزة - الكتاب مقسم إلى ثلاث أبواب ويضم مجموعة من المقالات عن الثقافة والفكر والإبداع، فى مقدمته تحذير صريح وأمر باجتنابه فهو كتاب مثقف جدا، يتحدث عن المثقف الحقيقى الذى يقف على حافة العالم وهو يرى الإسفاف والسرقة وكره المثقفين لبعضهم، هذا الكتاب لم يسامح أحدًا فهو فعل مقاومة يعود إلى الحياة بفعل الكلمة.

عقل مؤثث بالثقافة

الكاتب له باع طويل فى الثقافة والعمل الصحفي، أسلوبه سلس ومباشر وكأنه يأخذ بيدك برفق لتلج إلى عقله فهو قد تبرع «برأسه» إلى الناس ليقدم معارفه ومشاعره على طبق من كتاب، هذا العقل الفخم المؤثث بالثقافة والإبداع والتفانى فى خدمة الثقافة، ويعد هذا الكتاب أخر ما كتب ويحمل عنوانا مثيرا للجدل والكثير من الأسئلة الأخرى التى قد تظن أنك ستجد لها إجابات مباشرة بين طيات الكتاب، جعلنى أتساءل من هو المثقف؟ هل ينتج المثقف ثقافة؟ أم أن الثقافة هى التى تنتجه؟ وهل يختلف المثقف فى بيئتنا الشرقية عن الآخر فى المجتمع الغربى؟ وما دور المثقف فى المجتمع؟ هل يسبب المثقف الثورة؟ أم أن الثورة تسببه؟ فالمثقفون كما يرى «توماس سويل» مثلهم مثل سائر البشر الآخرين يمتلكون رؤية بعض الإحساس الحدسى لكيفية سير العالم، والمفترض بهذا الكتاب أن يعيننا على التفريق بين الثقافة الحقيقة، والمزيفة، والعميقة، والسطحية.

كتب سارتر «المثقف هو موقف وليس مهنة»، لكن لماذا يكره المثقفون بعضهم؟ بافتراض أن هذا الكره موجود، وما الفرق بين المثقف الزائف والمثقف الحقيقي؟ تساؤلات كثيرة يتحتم علينا إدراكها والنظر إلى ما يفعله المثقفون وليس ما يزعمونه، يشير الكاتب أن الكراهية بين المثقفين هو سلوك متجذر فى وسطهم، لكننى تجرأت وحرفت السؤال قليلا وتساءلت.. لماذا يكره الفنانون بعضهم؟ أو لماذا يكره الأكاديميون بعضهم؟ وقس على ذلك، وجود المبدع والمتميز والمختلف هو وجود محفوف بالمخاطر دائما، مما يذكرنى بما ورد فى كتاب “قلق السعى إلى المكانة” للكاتب آلان دبوتون حينما فسر ظاهرة توجد بين الأشخاص المنتمين لمجموعة واحدة وتجمعهم بعض الصفات المتشابهة، فحين ينجح أحدهم فذلك يكون سببا فى استثارة مشاعر الكره والحسد من البعض الآخر، فنجاحات الأنداد المزعومين لا تطاق فهم لا يغفرون لمتفرد موهبته و يقومون بالتقليل من شأن الناجح بسبب مشاعر النقص التى تعتريهم،  فنجاحه يستثير نرجسيتهم، وبدلا من أن ينهضوا ليسعوا كما نجح الآخر إلا انهم يكتفون بالتقليل من شأن الناجح وبث مشاعر الغيرة والحسد نحوه، إنها أمراض النخبة فى الوسط الثقافى أو العلمى التى لا تختلف فى أغلب صورها عن أمراض أى مجتمع آخر تجمعه بعض الصفات المتشابهة.

العصابات الثقافية

يشير الكاتب إلى ممارسة ثقافة الإقصاء والعصابات الثقافية التى تشكل خطرا على الثقافة أكبر من الديكتاتوريات المستبدة حين تفرض القيود على الحريات والنشر، بالإضافة إلى عدم تقبلها الاختلاف والرأى الاخر، حيث يعتقد المثقف المزعوم أنه صاحب الرأى الصحيح وأن الحقيقة واحدة وهو وحده من يمتلكها، وأن الآخر على خطأ فيقلل من شأنه لأنه ببساطة يختلف عنه، ورغم أننى لا أتفق مع ما كتبه أمبرتو إيكو فى رواية “ مقبرة براغ” حين كتب “ يجب أن يوجد دائما أحد نكرهه لكى نجد لأنفسنا ما نبرر به بؤسنا الخاص” إلا أن هذا ينطبق تماما فى بعض البيئات التى يتنافس فيها المتشابهون، وكان الأجدر بمجتمع الفن والأدب والمبدعين المتناظرين فى التفكير أن يملكونا رحابة الفكر والعقل و يتعايشون فى بيئة تعزز الإنتاجية والانسجام، ويتبنون مبدأ الوفرة فهناك متسع كاف لكل منهم، بل إن أعمالهم تستكمل بعضها البعض ونجاح أحدهم لا ينقص من نجاح الآخر.

الأدب والقوة الخفية

يستمر الكاتب فى استعراض أوجه الثقافة وحال المثقفين وفى الثلث الأخير من الكتاب يكتب عن الأدب وقواه الخفية، يسهب فى وصف مهنة المثقف وتواضع المثقفين ويطالب بوجود «علم وجود جديد» يمنح البشرية فرصة اكتشاف طرق جديدة لمواجهة الحاضر وتصحيح ما مضى، فالثقافة هى حصننا الحصين وملاذنا الأخير فى هذا العالم، ولأن الادب يعكس الحياة ويصور قيم وتطلعات الناس والمجتمع، فهو فن ابداعى وليس مجرد ترفيه، والمثقف كما عرفه تشومسكي: «هو من حمل الحقيقة فى وجه القوة».

يختم جمال حسين كتابه بأجمل ما قرأت عن الإبداع والشغف، حيث يشير أن الابداع لا يعيش دون إلهام، والإلهام لا يأتيك فالاعتماد على الموهبة المتقلبة ليس كافيا، بل يحتاج إلى عمل مستمر وبحث متجدد لتجسيد الأفكار الجريئة، فالإبداع كما يصفه الكاتب عقل جامح وعين منضبطة وتأكيد على الفرادة والتفرد والانفراد، فالمبدع لا يقتنع بعمله ولا يرضى بإنجازه وهذا جوهر الابتكار، فالأديب والفنان ليسوا مخترعين إنما يقومون بإعادة اكتشاف الأشياء التى لا يلاحظها الشخص العادى ويقدمونها بطريقه لا يتوقعها أحد، فجميعنا نستخدم نفس الكلمات ولكن من يختارها بشكل صحيح هو الأديب، كتب وليم شكسبير واصفا المثقف بأنه وحده يعيد النظر فى نفسه كل يوم، ويعيد النظر فى علاقته مع العالم ومع الأشياء كلما تغير شيء فى حياته».

وأستعير ما كتبه الدكتور جمال حين وصف الإشارات التى تشعر بها حين تقرأ الأدب الفذ والفن الراقى فتخاطب نفسك: هذه الكلمات كتبها عني، هذه الموسيقى لحنها لي، إنه رسمنى إنه يمثلني، هذا السحر الخفى فى الإبداع الذى يلامس مشاعرنا، لأنه يخاطب الشعور الكونى العام، وهذا ما لامسنى شخصيا وأنا أقرأ الكتاب فالإبداع بشكل عام هو القيام بشيء فريد من طاقتك الخاصة، فالأديب يكشف عن روحه للعالم وليس عن العالم فى روحه والكاتب سيتجسد فى كتبه ويمنح مشاعره للناس، وهذا يتطلب الكثير من الصدق والمثابرة وشحذ الشغف، ولا يكفى امتلاكك الموهبة والحرفية بل المثابرة المستمرة، و يجب أن لا يتوقف المبدع عن إدهاش نفسه وصنع ضوءه الخاص وبحثه المستمر عن مسار لا يمكن لأحد غيره أن يسلكه.

وبعد أن انتهيت من قراءة الكتاب وجدت نفسى أمام قائمة طويلة من الكتب التى كان يطرح عناوينها فى السياق وأعدت قائمة بها مع محاولة التذكر هل قرأت هذا الكتاب أو تلك الرواية، هل سأجدها فى مكتبتى لأطمئن أم انه يتعين على البدء فى رحلة البحث عن الكتب التى يقرأها المثقفون؟ وكما كتب محمد حسين هيكل أن “المثقف بطبيعته لا يمتلك جوابا نهائيا لسؤال، ولا يتصور مثل هذا الجواب النهائي”، ففى أحيان كثيرة الأدب والفن أكثر صدقا من الحياة ذاتها، لهذا يتحتم أن تكون حياة المبدع ذات معنى ولا بأس أن يكون على درجة من الخلاف مع هذا العالم ليجد ضالته فى الفكر والإبداع والخلق، فالإبداع أشرس نضال من أجل الحرية.

اقرأ أيضا : د. إبراهيم منصور: أم كلثوم الأيديولوجيا والشعر والغناء