حديث الاسبوع

هذا ما أسقطته غزة وحيدة

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

كشفت حرب الإبادة التى تكاد تكون غير مسبوقة فى تاريخ البشرية الحديث، التى تخوضها قوات الاحتلال الإسرائيلى ضد المواطنين المدنيين فى قطاع غزة، عن رزمة كبيرة من الحقائق، بعضها جديد أفرزته التطورات لأول مرة، فى حين أن كثيرها قديم، لكن لم تجبره معطيات الواقع على التجلي، كما يحدث حاليا، وكان يحتاج إلى لحظة اختبار فعلية تخرجه من منطقة الغموض والالتباس. 

هكذا تفوقت التطورات الجارية فى قطاع غزة، فى تفنيد أسطورة الجيش الذى لا يقهر، وأن مجرد حركة مقاومة قوامها بضع عشرات من الأشخاص، وبعتاد عسكرى متواضع جدا، نجحت فى اختراق، ما قيل إنه أحد أهم أقوى وأخطر أنظمة الاستخبارات فى العالم، وتفوقت فى الصمود فى حرب غير متكافئة لأسابيع كثيرة، إذ بعد أكثر من خمسين يوما من استمرار حرب مدمرة، لم يحقق العدو من مكاسب غير الانتقام من آلاف المدنيين، غالبيتهم من الأطفال والنساء واستهداف المنشآت المدنية، بينما على صعيد المواجهة المسلحة يضطر للاستنجاد بالوسطاء لتوقيع صفقة يسترجع بمقتضاها بعض أسراه من المستوطنين. وهكذا فلأول مرة يتعرض العدو إلى انتكاسة حقيقية تعيد إلى الأذهان المرحلة الأولى من حرب أكتوبر الخالدة. انتكاسة عناوينها الرئيسية خسائر فادحة فى الأرواح وفى العتاد وفى الاقتصاد، يتكبدها بشكل متواصل، وهو يدرك حاليا بأن التكلفة ستزداد بطول عمر هذه الحرب القذرة. 

وهكذا أيضا فسحت التطورات المجال أمام تقاطبات حقيقية، فيما يتعلق بالموقف من القضية الفلسطينية، حيث لم يعد ممكنا لطرف ولا لدولة الاحتماء والتستر فى المنطقة الرمادية إزاء قضية إنسانية صرفة. فالعدوان الإسرائيلى كشف عن المنسوب العالى من المساندة والتضامن المطلق الذى تكنه الغالبية الساحقة من الدول الغربية للكيان الإسرائيلي، حتى وهو يقترف أبشع المجازر فى تاريخ البشرية لم تتوان هذه الدول فى إبداء السخاء الكبير، فى الدعم المالى والعسكرى و الديبلوماسى والإعلامي، ولم تجد أدنى منسوب من الخجل فى تفسير ولا تبرير التناقض الصارخ فى مواقفها فيما يتعلق بما سمته (إرهاب حماس) و(حق إسرائيل فى الدفاع عن نفسها).

وأيضا فيما يتعلق بما سمته سابقا (جرائم الحرب التى يقترفها النظام الروسى ضد الشعب الأوكراني) و(الحق المشروع للشعب الأوكرانى فى الدفاع عن نفسه)، فى معادلة تدعو إلى الشفقة على ما وصل إليه هذا الغرب من مرحلة ذل واحتقار للنفس. وهكذا كانت التطورات فى غزة سببا مباشرا فى هذا التقاطب غير المتوازن بين عدد كبير من دول العالم، خصوصا القوية منها المساندة لإرهاب الدولة ولجرائم الحرب وللإبادة، وعدد آخر من دول العالم كانت عيونها بصيرة لكن أياديها قصيرة فى القيام بردة الفعل إزاء ما تشاهده.

الحقيقة الجلية الأخرى التى أبرزتها التطورات الأخيرة فى غزة من عمق القضية الفلسطينية تتمثل فيما يسمى بـ (الشعب الإسرائيلي) الذى هو فى حقيقته مجرد أعداد غفيرة من اللقطاء تم تجميعهم بالتهجير الإرادى من مختلف مناطق جغرافية العالم لتكوين شعب فوق أرض لم يولد فيها ولا تربى فوقها. الذى حدث هذه المرة أن هذا (الشعب) تأكد أنه يوجد فى المنطقة الخطأ، وأن الأرض ليست أرضه ولا ترابه، لذلك ما أن بدأت عملية (طوفان الأقصى) وتواترت التطورات بعدها حتى سارع (هذا الشعب) إلى جمع حقائبه لمغادرة أرض ليست له، والعودة إلى مواطن الميلاد والنشأة ، حيث الوطن الذى يشملهم بالرعاية والأمن. وفى زمن قياسى غادر أكثر من مليون شخص من (هذا الشعب) المستوطن أرض فلسطين الطاهرة. وهكذا تكون التطورات الأخيرة فى غزة قد أسقطت فعليا مفهوم (الوطن اليهودي.)

لم يقتصر الأمر على كل ذلك، بل إن التطورات الأخيرة أبقت غزة فى غزتها، وحطمت ما كان البعض، فى الغرب بالخصوص، يعتقده حلا لقضية غزة، من خلال تهجير سكان غزة إلى منطقة سيناء المصرية وإلى الأردن لإعادة إنتاج نكبة 1948. ومثل صمود مصر و الأردن فى مواجهة الضغوطات الرهيبة التى مورست عليهما بالتهديد وبالإغراء عنوانا بارزا لتحطيم هذا الوهم، مما وضع الاحتلال والقوى المناصرة له فى ورطة حقيقية، فلا هم قادرون على حسم الحرب ميدانيا، ولا هم قادرون على قتل شعب بأكمله وتطهير أرض غزة منه للاستفراد بالمقاومة والقضاء عليها، ولا هم يتوفرون على بدائل تخرجهم من عنق الزجاجة. 

موازاة مع ذلك لم تجد الغالبية الساحقة من وسائل الإعلام الغربية أى حرج فى الكشف عن هوياتها الحقيقية، وعن طبيعة الأدوار الموكولة إليها، من خلال الاصطفاف إلى جانب قوات الاحتلال الإسرائيلى كمساهمة فعلية فى حرب الإبادة التى يقترفها، لذلك لم تتوان لحظة واحدة فى الدوس على أبسط القواعد المهنية، ولم تر مانعا فى افتعال الأخبار الكاذبة، وقبلت لأن تنقل مقرات هيئات تحريرها إلى مراكز القرار السياسى والعسكرى فى الحرب القذرة، وتسلم مفاتيح النشر والتقرير للقادة السياسيين ولقادة الحرب المجرمين. وهكذا تكون التطورات فى غزة أسقطت منظومة الإعلام الغربى المهنى والمستقل والموضوعي، وعرضته أمام العالم عاريًا من جميع الألبسة، ولم تعد تسمح له بأن يرفع شعاراته الخبيثة، على الأقل على مسامعنا. 

إن التكلفة  فى مجازر غزة كانت كبيرة وغالية، بسقوط آلاف الشهداء وإصابة عشرات الآلاف وتدمير معالم الحياة برمتها، وكان الألم والحزن والأسى، تجاه ما اقترف فى حق شعب أعزل أصر الاحتلال على الانتقام منه لما طاله من ذل وهوان واحتقار. لكن الربح كان كبيرا جدا، لأن الشعب الفلسطينى لوحده أسقط من خلال صموده وبسالته مفاهيم ومسلمات ومعتقدات كثيرة وعديدة، والأهم من كل ذلك أنه أسقط كل ذلك وحيدا.
< نقيب الصحفيين المغاربة