«كيرلي» قصة قصيرة للكاتب محمد جميز

الكاتب محمد جميز
الكاتب محمد جميز

 

أفتش في خزانة ملابسي عن ذاكرتي القديمة، قد زرعت أمي فيها فرحة وحلما كبيرا سقته من دعواتها في جوف ليلها المبارك، أقابل صفحات دفاتري أيام الطفولة، هذا خط شيخي في الكتاب، وهذه ملاحظته لأمي: ولدك طارق خطه حلو رغم سنوات عمره الصغيرات، لكن صوته يغترف من آواني الشجن كميات هائلة دون أن يشعر، استوصوا به خيرا..

مزق أبي رداء أمي أمام المارة في الشارع، سترت ما استطعت من نوافذ جسدها المفتوحة، سترتها بدموعي، رحل أبي وهو يحمل في حشايا قلبه شيطانا يذكره صباحا ومساء بأنها ذنب لا يغتفر، ونبتها هذا بذرة فاسدة لا تمت له بصلة..

كانت أمي تستقبل أمطار الشتاء وصقيعه قبيل الفجر بدعوات خفية إلى ربها بأن يرزقها من حيث لا تدري ولا تحتسب، ثم تعود قبيل الظهر وفى يدها مؤن البيت وأشيائي المدرسية، تمسح عن مداخل العمارات الحزن، وتغلق على كسرها أبواب المقاهي بعد خلوها من الزبائن وتجبر المكان بنفحات من طهارتها وحلاوة أناملها، لكن أبي الذي كان يحرس القمر كل ليلة لم يعجبه صنيعها، فقدمها قربانا للشيطان الذي يسكن قلبه..

أقف على أعتاب محل البقالة المجاور لمنزلي، غضب الناس يطرد البركة من المحل، البقال يصيح بأنه ليس سببا في ارتفاع أسعار السجائر، أحمل خطواتي وأقصد مقهى قريب، أطلب كوبا من القهوة وأرجيلا، قد عزفت عن تدخين السجائر منذ لحظات، كان أبي يأكل السجائر، وكنت جوعانا، أمسح على خده بقبلاتي هامسا: أحبك يا أبي أنا أشتهي لحم الدجاج المشوي، يدفعني بقدمه وينهرني صارخا: ارحل بعيدا يا نبتة الشيطان..

ألعق بلساني ما تبقى من بن في كوب القهوة، أشتاق إلى حلمي القديم الذي خاطته أمي على مقاس قلبها، كانت تراني في استغاثتها العارجة إلى السماوات مهندسا يرسم مدينة ضخمة تنام على النيل، مدينة لا يقطنها سوي الطيبون..

قد أصبحت مهندسا، وحلمها القديم قد سرقه الشيطان الذي كان يحتل قلب أبي، تنسال الدماء من شاشة التلفاز التي تفترش صدر المقهي، وسيدة شابة حلوة تبحث بلهفة مجنونة في أروقة مستشفى عن ولدها المصاب، كانت أمي تجوب شوارع الحي كالمجذوبة صائحة: طارق، وعندما تبصرني نائما من شدة الجوع متوسدا رصيف أعمدة الإنارة الخشبية كانت تجزع وتضرب صدرها قائلة: قد أحضرت الطعام يا نور عيني، العفو والسماح يا طارق..

ما زالت السيدة الشابة تهيم في طرقات المستشفى ثائرة مستفهمة تفتش عن ولدها، اسمع معي كلماتها: هل رأيتم ولدي يوسف أبو شعر كيرلي وأبيضاني وحلو.