«في الغروب حياة».. قصة قصيرة للكاتب الصحفي حاتم نعام 

الكاتب الصحفي حاتم نعام
الكاتب الصحفي حاتم نعام

لعلها المرة الأخيرة التي يتأهب فيها لمثل ذلك الموعد الذي انتظره بفارغ الصبر قبل أن تميل سماؤه إلى لون الاختناق، فقد شارف على فقد جاذبيته، وبدأ الزمن مبكرًا في رسم التجاعيد على وجهه، وانسحب شعر الرأس إلى الوراء ليكشف عن جبينه العريض الذي ترك لديه حساسية مفرطة وشعورًا بالحرج من الآخرين خاصة الجنس الآخر، ثقته بحضوره المميز تهتز أحيانًا أمام المرآة التي كان يقف أمامها بالإمس معتدًا بنفسه، واليوم تسكن نفسه غربة مسافر، متاهات كثيرة تزاحمه، والروح ترسل رسائل كثيرة لا يفسرها ولا يريد، لم يتوقف أمامها كثيرًا فاليوم ليس عاديًا لكنه يساوي عمرًا بأكمله .
استمتع بحمام ساخن واهتم بنظافة أسنانه وأظافره حتى يكسر الجليد في نفسه، حاول أن يظهر بثياب  تجعله جذابًا، فالناس تحب من الانطباع الأول، كذلك الحياة لا تخلو من الانطباعات الأولى .
قلبه ينبض بسرعة عالية مع رنة الهاتف، الموعد قد اقترب وعقارب الساعة ترقص فرحًا، دقائق معدودة حملته خطواته التي لم يشعر بها إلى المكان المحدد، إنها غبطة  أول لقاء بمن التقى بها صدفة في ممرات الحياة، وتسللت إلى مشاعره وسكنت، لم ينتظر كثيرًا حتى أشرقت بطلتها التي حلقت بالقلب عاليًا ليكون في مصاف الملائكة، تلمس يدها ونسي الدنيا، فقد غمره  الحب الذي ينبض من أطراف أصابعها وأكمل كل ما يفتقد إليه .
تحدثا قليلا واتجه بها  إلى كافيه مناسب اعتاد الجلوس فيه العشاق والأحبة،  كانت لديه الجرأة اللازمة للنظر في عينيها، يريد أن يتزود منها، ارتبكت خجلًا عندما أطال النظر، لم تقو على ذلك  واستدارت هربا من نظراته ، حتى شد انتباهها منضدة جانبية يجلس حولها مجموعة من البنات في سن المراهقة إحداهن تدخن السيجار والأخرى تدخن الشيشة بعظمة وتحررية، ومزاح وضحكات مع النادل الذي اعتاد على حضورهن .
ابتسمت من المنظر وداعبته:  لم أفعل ذلك في المرحلة الثانوية أخيرا جلست وسط المراهقين بعد هذا العمر، أنا في  لقاء غرامي صريح ، وضحكت 
قال كنت أتحدث معك كثيرا قبل أن آراك ، انتظرتك دوما ،دعيني أسافر في براح عينيك ، في وجودك عادت الروح إلى الجسد، تلمس يدها، وأشعل حبا قد خمد من سنوات ، ربما لم يعرفه قلبها من قبل، يهمس في أذنيها دعيني أصنع معك دنيا لم يألفها الناس من قبل،  أصنعها بنفسي وندور سويا في دوائر العشق، نتوه ونتمنى ألا نعود،  عيناها تلمعان ،  تنطقان بحب الحياة  سبقت ابتسامتها دمعة الفرح التي تتراقص على خدها قبل أن يجف ،  فهي تحيا الحياة ميتة، فكم من أحياء أموات عندما تصبغ الأشياء  باللون الرمادي، همست بصوت خافت: آراك سحابة  تمطر حبا، شعرت معك أني لا أرى ، لا أفكر، لا أفسر، قال: في الحب نفقد قدراتنا المنطقية ، في الحب يتساوى العالم والجاهل ، الكهل والمراهق ، العاقل والمخبول ، أشياء منطقية كثيرة لا توجد في أبجديات الحب.

مر الوقت سريعا وامتلأ الكافيه برواده  فقررا المغادرة  وتبادلا الوداع. لكن مازالا يصران على الإمساك بلحظة  أعادتهم إلى عالم آخر، أعادتهم إلى الحياة بعد الغروب، افترقا ويشعر كلا منهما أن له جناحان قويان يحلق بهما .

 كل الأشياء ممكنة،  والسماء لديها الكثير. فربما تعيدك  إلى حياتك الحقيقية في الوقت الضائع من عمرك كما كنت تظن، وتغير ما تظن أنه لن يتغير، وربما أجمل ما في الحياة لم نعشه بعد .. انتهى