«رسالة من استشهادي» قصة قصيرة للكاتب الدكتور صلاح البسيوني

صلاح البسيوني
صلاح البسيوني

أكتب إليكم كلماتي هذه لنتعارف .. أيها العالم المتحضر .. المتمدن .. يا من تطلون علينا من خلف أبوابكم الزجاجية .. من داخل صوامعكم التي تمتلئ بالمقاعد الوثيرة، وأجهزة الاتصال والتكيف الحديثة .. وكل ما هو جديد في رفاهية القرن الواحد والعشرين .. تشيرون إلينا في سخط أحيانا كثيرة .. والبعض منكم لا يملك لنا سوى نظرة  الشفقة ليس إلا .. أكتب إليكم رسالة التعارف هذه لتشهدوا معي ميلادي .. وسنوات عمري .. وخلودي !!

نعم خلودي .. أسمى لا يهم فهو مثل كل الأسماء .. أطلقوه علىّ يوم ميلادي .. وعيت الحياة بين أطلال الصفيح والحجارة وقطع الأخشاب والخيش .. فيما يسمى بالمخيم .. أشياء تأوي ولا تحمي .. لا ترد عنك البرد والمطر والشمس والكلاب الضالة .. ولا تخفى عورات الفتيات والنسوة .

أمي مثل كل نساء الأرض .. امرأة .. ولكنها دون نساء الأرض بلا هوية .. فلا داعي للهوية هنا .. فعندما يلازمك الموت لا يهم الاسم أو الهوية .. فالأرض لا تعرف الأسماء بين أطلال المخيمات .. والموت عندما يأتي لا يفرق بين شخص وآخر .. رجل أو امرأة .. طفل أو عجوز .. الموت يأتي عندنا ليحصد كل شيء .. فالموت عندنا جماعي .. حتى أطلال المخيم يحصدها !! .

أبى .. ولد مثل أبيه .. كما ولدت مثله .. ومات مثل أبيه .. وسأموت مثله .. يحمل كل منا  أحب الأسماء إلينا .. اسم شهيد .. وتلك أمنية كل من يعيش بين أطلال المخيمات .. حيث ولدت بين أنقاضها وسط دوي القنابل والصواريخ وطلقات الرصاص والموت يتسلل ويحيط بي من كل جانب .

استشهد أبي ليترك لي سلاحه .. وتسقط أمي صريعة .. شهيدة .. وأنا بين أحضانها تفتديني من الموت .. بحياتها دفعت ثمن حياتي .. وعرفت الحياة بين خرائب المخيمات .. وكل يوم تنهال القذائف والطلقات والموت .. مرة من الأعداء وأخرى من الأصدقاء .

 تعلمت أن لا صديق لي سوى رفاق المخيم .. ولا صديق أثق به سوى سلاحي .. ونفضت التراب عن سلاح أبى فهنا في المخيمات .. تحت كل حجر سلاح ..  وخلف كل بقايا حائط سلاح .. ومع كل شهيد يدفن سلاحه .. والأرض هنا تنبت الشهداء والسلاح !! .

عرفت كيف أحمل السلاح .. كيف أصيب الموت بمقتل .. كيف انتصر عليه وأقهره .. فهل عندكم من قهر الموت مثلنا ؟  أصبح سلاحي هويتي .. وقوتي .. وطريقي للخلود .. ولم يعد لي مطلب سوى أسمى .. أمنيتي التي حافظت على عمري من الموت لأجلها .

حملت على كتفي حقيبة صغيرة .. تحمل  جواز مروري إلى خارج المخيم ..  إلى عالمكم .. وأيضا إلى عالم الخلود .. ونظرت إلى الأطلال غير آسف .. وإلى عالمكم  غير مبالي .. وحزمت أمري .. وارتديت حزام الموت .. هل ارتدى أحد في عالمكم يوما حزام  الموت !! .

وكتبت رسالتي إليكم لنتعارف .. أسمى " أبو مازن " أو "خالد الناصري " من مواليد المخيمات في غزة .. فلسطيني الجنسية .. عمري عشرون عامًا من  حساب السنين .. وعشرون مائة من العذاب والأهوال .. الآن انتهت رسالتي إليكم .. ولتسمعوا صوتي مدويا بعد لحظات.

انتهت الرسالة التي تلقتها وكالات الأنباء العالمية على أجهزة الفاكس ..  ومعها أعلنت أحدى المنظمات الفلسطينية بيانها عن قيام أحد فدائيها بعملية انتحارية في قلب تل أبيب .. واستشهاد البطل " خالد الناصري " الملقب بـ" أبو مازن "  .

وخبر آخر نقلاً عن إذاعة إسرائيل عن وقوع انفجار عنيف في مبنى خاص برجال المخابرات الإسرائيلية (الموساد) في تل أبيب .. ووقوع عدد كبير من القتلى والجرحى بفعل أحد الإرهابيين الذي لقي مصرعه عندما فجر الشحنة الناسفة التي حول جسده لينسف نفسه ورجال الأمن الذين حاولوا اللحاق به بعد أن نسف المبنى.