خارج النص

ليسوا مجرد أرقام!

د. أسامة السعيد
د. أسامة السعيد

فادى خالد البابا.. اسم ربما لن تسمعه فى الأخبار الحزينة الآتية من قطاع غزة، لكنه يستحق أن تعرف قصته، فهذا الرجل الذى يرقد - حتى كتابة هذه السطور - بين الحياة والموت، هو نفسه لا يعرف تفاصيل المأساة التى صار بطلا لها!

فادى مواطن فلسطينى، من غزة، عاش لمدة 16 عاما يبحث عن الإنجاب، وبعد طول صبر، رزقه الله بأربعة توائم فى سبتمبر الماضى، أسماهم خالد وعبد الخالق ومحمود ومها، لم تسعه الفرحة بعوض الله وكرمه الذى فاق تصوره، اجتمعت العائلة بالكامل لتحتفل بالمواليد الصغار، وربما كان ذلك آخر التئام لشمل العائلة.

فبعد أقل من شهر، كان أفراد تلك العائلة على موعد مع قصف إسرائيلى غادر لمنزلهم، وفى غضون ثوانٍ معدودة كان القصف الإسرائيلى الغادر الذى استهدف حى الشيخ رضوان فى غزة، يقتطف أرواح الزهور الصغيرة للتوائم الأربعة، ومعهم روح أمهم وفاء السويركى، و15 شخصا آخرين من العائلة ذاتها، بينما دخل «فادى» فى غيبوبة عميقة، ربما لو خرج منها وخير بين الحياة والموت بعدما ألمّ بعائلته لاختار الموت راضيا!

القصة نشرتها وكالة «صفا» الفلسطينية، نقلا عن أقارب «فادى»، وهى على مأساويتها، لا تبدو فريدة من نوعها فى غزة الحزينة، فالكثير من القصص المؤلمة تتناثر تحت ركام القطاع، الذى حولته نيران الغضب والانتقام الصهيونى الأعمى إلى أطلال.

هذه القصة وغيرها آلاف لأبطال من أبناء الشعب الفلسطينى الأعزل، لا ينبغى أن تبقى أسيرة منشورات وسائل التواصل الاجتماعى، أو يكون التعامل الوحيد معها هو التحسر ومصمصة الشفاه، بل يجب أن تتحول إلى قصص حية نغزو بها العالم، وتصير أيقونات تعرف الدنيا تفاصيلها بكل اللغات.

يجب أن يدرك العالم أن ضحايا غزة، ليسوا مجرد أرقام، أو حفنة من «الحيوانات البشرية» كما وصفهم وزير الحرب الإسرائيلى، بل هم أناس أبرياء كانت لهم حياتهم وأحلامهم التى اغتالتها يد البطش وآلة القتل الصهيونية المدعومة غربيا.

إبراز تلك القصص الإنسانية أداة مهمة لتعرية وفضح بشاعة الانتهاكات التى ارتكبتها إسرائيل فى غزة، وفى كل أراضى فلسطين المحتلة، فالحديث عن الشهداء بوصفهم أرقاما نتابع قفزات مؤشر الموت وهو يحصد مئات الأرواح من ساعة إلى أخرى، لا يعنى شيئا بالنسبة للعالم، بينما طرح قصص هؤلاء الشهداء والضحايا عبر مدخل إنسانى يجسد عمق المأساة ويفضح قسوة المعاناة هو المدخل الصحيح الذى يجب أن نخاطب به العالم، وأن يظل حيا فى ذاكرة الرأى العام العالمي.

قد لا يتذكر كثيرون بشاعة الانتهاكات التى ارتكبتها الولايات المتحدة فى عدوانها على فيتنام، لكن صورة الطفلة «فان ثى كيم فوك» ذات الـ 9 سنوات، المعروفة باسم «فتاة النابالم» وهى تجرى عارية بعد قصف الأمريكيين لقريتها بالنابالم الحارق فى يونيو 1972 أصبحت رمزا لأهوال «حرب فيتنام».
أسهمت الصورة التى التقطها المصور، نيك يوت، قبل أكثر من خمسين عاما، وحصل بها على جائزة «بوليتزر» الصحفية فى تغيير مسار الأحداث، واعتبرت أقوى وثيقة إدانة لأمريكا التى ترفع شعارات الحرية، بينما تقصف المدنيين بأسلحة محرمة دوليا!! 

وقبل أكثر من 20 عاما عاش جيلى تفاصيل انتفاضة الأقصى، التى تآكلت تفاصيلها فى الذاكرة، لكن بقيت صورة الطفل محمد الدرة وهو يتلقى رصاصة الغدر وهو بين أحضان والده عصية على النسيان، ولا تزال تنتقل من جيل إلى آخر لتروى حقيقة ذلك الاحتلال الوحشى، وتطوقه إلى أن يزول يوما ما.
علينا أن ندير معركتنا مع ذلك الاحتلال البغيض على مختلف الأصعدة بوعى وبقدرة وبعلم... فالطريق طويلة والنصر للحق وإن طال الزمن.