حديث الأسبوع

حينما عرّت غزة المنظومة الحقوقية والإعلامية الغربية

عبد الله البقالي
عبد الله البقالي

عبد الله البقالي

 

لم يكن يخامرنا أدنى شك فى أن المنظومة الإعلامية والحقوقية التى كان، ولا يزال، يشتغل بها الغرب، فى تعاطيه مع الأوضاع السياسية والحقوقية والاقتصادية السائدة فى محيطه وفى العالم، ليست منعزلة عن سياقات سياسية معينة مرسومة بدقة متناهية، وليست مجردة من مضامين معينة تخدم مصالح محددة، سياسية واقتصادية وجيواستراتيجية بالخصوص.

لأنه من السذاجة الاعتقاد لحظة واحدة فى أن تسخير الغرب لمنظومة متكاملة ومتناسقة فى المجالات السياسية والحقوقية والإعلامية، وما يتطلبه تشغيل هذه المنظومة وتوظيفها من إمكانيات مالية ضخمة، وموارد بشرية متخصصة، الهدف منه خدمة القضايا الحقوقية والإعلامية نفسها، بل ما كان واضحا، أن هذه المنظومة تتحرك فى دائرة معينة وبأجندة محددة، وأن كثيرا من وسائل الإعلام الغربية، وعديدا من المنظمات الحقوقية الدولية والمنتديات السياسية الجهوية والعالمية، هى فى حقيقتها أدوات اشتغال، تديرها قوى سياسية واقتصادية غربية خدمة لمصالحها السياسية والاقتصادية. ولذلك لم يكن غريبا ولا مثيرا أن تتحرك هذه المنظومة بتناغم كبير ضد دولة معينة بعيدة عن الغرب، فى الجنوب كما فى الشرق كما فى الغرب، تزامنا مع خلافات سياسية معينة، وهى منظومة كانت، ولا تزال أيضًا، تلقى فى كثير من الأحيان تربتها الصالحة فى مساحات شاسعة من دولنا بسبب سيادة أوضاع سياسية وحقوقية وإعلامية معينة، كان الغرب ولايزال يستخدمها حطبا فى النيران التى تقتضى مصالحه إشعالها فى مناطق معينة من العالم .


وإن لم يكن هذا الشك يخامرنا لحظة واحدة فى ذلك، إلا أنه كان يصعب تشكيل تصور متكامل لهذه المنظومة، وحجمها وقوة جرأتها فى مواجهة الرأى العام الدولى.
ما يحدث فى سماء وأرض وبحر غزة فى فلسطين المحتلة، من محرقة حقيقية تكاد تكون غير مسبوقة فى تاريخ البشرية الحديث، مثل لحظة اختبار حقيقية فى ذهنية الرأى العام فيما يتعلق بتشكيل الصورة الحقيقية والكاملة للمنظومة الإعلامية والحقوقية والسياسية الغربية، التى لم نكن نجهل أهدافها وخلفياتها، لكننا لم نكن نتصور، للحظة واحدة بأنها بهذه القوة، وبهذا الحجم، وبكل هذا الإصرار، وبهذه الجرأة فى التعامل مع الرأى العام، وفى علاقتها الحقيقية بالمراجع التى تدعيها، والتى عرضتها باستمرار فى قوالب جاهزة مرتبطة بقيم العدالة والمساواة والحرية والبعد الكونى لحقوق الإنسان.


حدث فى مرات سابقة، أن تعرضت هذه المنظومة إلى لحظات امتحان تسببت لها فى هزات عنيفة، انتهت لدى الرأى العام، خصوصا من خارج جغرافية هذا الغرب إلى الصدمة، كما كان عليه الشأن حينما تطوعت وسائل الإعلام الغربية برمتها للترويج لمزاعم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، لتبرير الهجوم عليه واحتلاله وتدميره. وبعد خراب مالطا، وبعد قتل مئات الآلاف من المدنيين وجرح مئات آلاف آخرين، وبعد تدمير قدرات العراق، تأكد زيف الادعاءات، ولم يشعر كاتب الدولة الأمريكى فى الدفاع آنذاك، ولو بقشعريرة خجل، وهو يعلن بصفة رسمية عدم وجود هذه الأسلحة، ولم تجد وسائل الإعلام الغربية التى روجت للأكذوبة وسوّقتها كما يسوق لباقى السلع الرخيصة أى حرج فى تأكيد مسئوليتها المباشرة فى حجم الأضرار التى تسببت فيها نتيجة دور الخادمات الذى قامت به فى سبيل تمكن مراكز القرار السياسى والعسكرى من تحقيق أهدافها. أو كما كان ولا يزال عليه الحال بالنسبة للحرب الروسية الأوكرانية، حيث لا نحتاج لكثير جهد لتأكيد التناغم الكبير الحاصل بين مراكز القرار السياسى والعسكرى فى الغرب وكثير من وسائل الإعلام والمنظمات الحقوقية والمنتديات السياسية هناك.. ولكن بدون أدنى مجازفة، فإن العدوان الغاشم الذى تشنه قوات الاحتلال الإسرائيلى ضد الشعب الفلسطينى فى غزة كما فى رام الله، يمثل لحظة فارقة فى حياة هذه المنظومة الغربية الخبيثة. وهكذا فإن قتل عشرات الآلاف من المدنيين، خصوصا من الأطفال والنساء، وهدم البيوت فوق رءوس سكانها بالقنابل المحرمة دوليا، واستهداف المنشآت الإنسانية بما فى ذلك المستشفيات، وتدمير البنية التحتية بصفة كاملة، و قتل أكثر من خمسين صحافيا وإعلاميا فلسطينيا، كل هذه الجرائم لم تحرك ساكنا لدى منظمات حقوقية دولية تقيم الدنيا ولا تقعدها حينما يتم التضييق على مواطن واحد، أو يتابع صحافى واحد، أو تمنع فعالية واحدة فى موقع آخر من الكرة الأرضية، خصوصا فى الدول التى تطبع علاقاتها مع هذا الغرب، التجاذب والاحتدام.وهكذا لا يتوانى كثير من وسائل الإعلام الغربية فى نشر أخبار، هى تدرك مسبقا أن مراكز القرار العسكرى والسياسى فى الغرب افتعلتها كأخبار زائفة فى إطار الحرب الإعلامية، ومع ذلك تعمدت نشرها بشكل واسع، قبل أن تمارس لعبة الخبث الإعلامى بالاعتذار عن نشرها بصفة موازية، مع نشر أخبار كاذبة أخرى قبل أن تعود للاعتذار عليها من جديد.

وهكذا لا تتردد قناة تليفزيونية غربية ذاع صيتها فى إجبار صحافية جبانة على تمثيل مسرحية رديئة لتزييف الحقائق، ولم تتوان جحافل وسائل الإعلام الغربية فى فرض مشهد إعلامى موازٍ وخدوم للمشهد الحربى والسياسى الذى تديره مراكز قرار سياسية وعسكرية غربية. ولذلك تجردت وسائل الإعلام هذه من جميع مقومات الانتماء الإعلامى الحقيقى..إن العدوان الإسرائيلى ضد غزة فرض على المنظومة الإعلامية والحقوقية والسياسية الغربية على أن تتجلى على حقيقتها، كما هى، بوجوه بشعة متسخة بسوائل التجميل التى أذابتها حرارة الأحداث والتطورات الأخيرة فى غزة.