عبدالله إبراهيم يكتب : الخيال التاريخى

الخيال التاريخى
الخيال التاريخى

حيثما تُعرض أحداث الماضى البعيد، فيلزم التنبيه إلى أنها محمولة بمرويات ومدوّنات تفتقر إلى الصدق بدلالته المباشرة، إنما ترد على سبيل الاحتمال، والتخمين؛ ذلك أن أمانة الكتابة التاريخية محاطة بالشكوك فيما تحمله من الماضى إلى الحاضر، وقد انتدب المؤرخ الأمريكى «هايدن وايت» نفسه لتشريح تلك الإشكالية منذ أول سبعينيات القرن العشرين، حينما انخرط فى جدلٍ حول طبيعة الكتابة التاريخية، وجعل موضوعه فحصها فى أوروبا خلال القرن التاسع عشر كما تولّاها كبار المؤرخين وفلاسفة التاريخ، فلاحظ غزواً للخيال الأدبى فى صلبها، إذ امتثلت لأعراف التأليف السردى أكثر من انشغالها باستعادة الوقائع القديمة بالطريقة التى كانت تدّعى استجلاب حقائق الماضى إلى الحاضر بأكبر درجة من الأمانة. 

 صرّح وايت فى كتابه العمدة« ما بعد التاريخ: الخيال التاريخى فى أوروبا القرن التاسع عشر» بأنه قارب الكتابة التاريخية بتوجيه من المكاسب المنهجيات الحديثة التى جعلت من الخطابات، وليس من الوقائع، موضوعاً رئيسياً للبحث، فانتقل تركيزه من العمل على التاريخ إلى ما بعد التاريخ، وبذلك فقد أحدث انعطافاً فى هوية الكتابة التاريخية، فهويتها السردية غلبت هويتها التوثيقية، وما عادت رهينة النمطية الموروثة بأنها كتابة مُحكمة الصنع للإتيان من عصور مضت إلى الآن. وخلص إلى تحقيق رؤيته بإيعازٍ من التحولات المنهجية الجديدة حول مفاهيم الخطاب والسرد التى ظهرت بعد منتصف القرن العشرين. وفى ضوئها أعاد فحص الكتابة التاريخية الأوروبية لدى كبار مؤرخيها مثل: ميشيليه، وتوكفيل، ورانكه، وبوركهارت، وكبار فلاسفة التاريخ من أمثال: هيجل، وماركس، ونيتشه، وكروتشه، وتوصّل إلى وجود حصة كبيرة للخيال السردى فيها لم يكن معترفا بها من قبل، وعليه، ينبغى أخذها فى الحسبان عند وصف الكتابة التاريخية من حيث أرجحية السمة السردية فيها على التاريخية.

 والقول بأن شطرا من الكتابة التاريخية ينتمى إلى حقل الأدب ليس جديداً، فهو شائع الذكر منذ أثير الموضوع فى الثقافة الإغريقية، وظل محلّ نظر إلى العصر الحديث، وقد اهتدى وايت بتلك الأصول، ودفع بالكتابة التاريخية إلى المنطقة الأدبية، وعالجها فى إطار ذلك التصوّر، وكأنه أقحم التاريخ فى الأدب، ولم يُقحم الأدب فى التاريخ، ومع ذلك، فما برح الحديث عن حصة كلّ منهما فى الآخر موضوع خلاف بين المؤرخين ونقاد السرد. ولا يغيب عن قارئ وايت أنّ أحد مقاصده من ذلك تحرير الكتابة التاريخية من الادّعاء بأنها تتولّى التقييد الأمين لحوادث الماضي، فذلك إن حدث يقوّض ركائز بنية الخطاب، فموقع المؤرخ، ووجهة نظره، وطرق معالجته للوقائع، وكيفية تركيب خطابه عنها، والنتائج المحتملة التى يُخلص إليها، وكلها، أو فى أقله معظمها، تتباين بين مؤرّخ وآخر، وبين منظور ومنظور، وبين عصر وعصر، وبين حوادث وأخرى، وبين غاية وغاية، فتكون الإحاطة الموضوعية بوقائع الماضى مُتعذّرة، أو فى الأقل مشكوكاً فى أمرها، فلا مناص من امتثال الكتابة التاريخية لبعض أعراف الكتابة السردية بمعناها المجازى أكثر من امتثالها لأعراف الكتابة التاريخية بمعناها التقليدى الشائع. وبالأخذ بما انتهى وايت إليه يُحلّ فهم أحداث التاريخ محلّ وصفها.

 ومن أجل ضبط وظيفة الكتابة التاريخية لم يخف المؤرخ الأمريكى هدفه فى تقليب صورها، ومن ذلك محاججة المؤرّخين، وإبطال دعاواهم القائلة بموضوعية تلك الكتابة، ولم يكن فى وارده معالجة أمر انتفاع السرد من التاريخ، فذلك ليس مدخله، إنما هو من شأن السرديين لا المؤرّخين، ومع ذلك، فقد انتفع من نتائج أعمال السرديين فى ذهابه إلى أن الكتابة التاريخية تنعقد فى حبكة ناظمة للأحداث المذكورة فيها، وحضور الحبكة فيها يدفع بها إلى منطقة الكتابة السردية، ويرغمها على الانتفاع من مكاسبها، فلكى يحيط المؤرخ بجوانب الماضى يتحتم عليه بناء “قصة” من مجموع الأحداث التاريخية تسعفه فى فهم عالم الماضي، أى أن يستعير من حقل السرد طريقة بناء المادة التاريخية. ومقصده نزع الشرعية عن السمة “العلموية” التى شاعت فى كتابة التاريخ مدة طويلة، وتقويض الادعاء بأنها تنتهى إلى بناء قوانين حتمية تُحكم بناء الأحداث، وتعاقبها، فما أبعد التاريخ من أن يكون علماً بالماضي، إنما هو محاولة لفهمه، وما دام كذلك، فلا يبرأ من نفاذ السرد إليه، ولا يمكن له تحاشى الاستعانة بوسائل السرد لبلوغ غايته.

 ومع إعداده المنهجى فى تاريخ القرون الوسطى، لم ينكر هايدن وايت مكاسب المناهج النقدية الحديثة التى عاصرها، فانكبّ عليها، وجعلها دليلا له فى معاينة المادة التاريخية فى القرن التاسع عشر، ونتج عن ذلك ارتياب بمصداقية التاريخ التقليدي، ذلك التاريخ الذى يدّعى نقل الأحداث كما وقعت بزعم أنه يبنى معرفة موضوعية بالماضى، فيعيد الاتصال بها بموثوقية لا يُطالها الشكّ، ومرّد ذلك الرؤية الساكنة للأحداث، ونزع محفّزاتها، والانشغال بتنظيمها، وليس بفهمها، وبذلك، جرى إهمال سيرورة أحداث التاريخ، وتجنّب الوقوف على آثارها البعيدة، فانتهت الكتابة التاريخية إلى مدوّنة وصفية خاملة، تجتذب إليها الأذهان الراكدة، لا العقول اليقظة، لأنها ركنت إلى التسليم بدل أن تجهر بالمساءلة.

وعلى خلاف ذلك، تطلع وايت إلى كتابة تقف على الأحداث فى فورانها، وفى تضاربها، وفى نزاعاتها، وفى تفاعلاتها، وترابطاتها الجوانيّة، فبكل ذلك يمكن استكناه الماضي، أو محاولة فهمه، واستخلاص العبر منه، وتقصد تلك المحاولة الإتيان بأحداث الماضى إلى الحاضر لمعاينتها، وتحليلها، واستنطاقها، عوض الارتحال إليها، والإقرار بما جاء فيها، والاكتفاء بوصفها باعتبار أنها كاملة الصدقية، فلا يمكن انتزاع الأحداث من حواضنها، وليس من الصواب تجريدها عن شبكة الحوافز التى دفعت بها، ولا إهمال شيء، أو طمس شيء، من أسباب وقوعها، وإلى ذلك، فالانشغال بترتيبها على قاعدة السبب الواحد، والنتيجة الوحيدة، يُفضى إلى حبس الماضى فى ذاكرة خاملة تستعيد ما وقع من أحداثٍ من دون أن تفكر فيه، أو أنها تدّعى الاستعادة، ولكنها تُعرض عن التفكير، إن لم تعجز عنه، والتفاعل معه، إذ أمسى فى منأى عنها.إن الإتيان بأهوال الماضى خير للناس من ذكرها فى سجلاتٍ وصفية. وأن يدفع المتلقّى الى العيش فى خضم تلك الأهوال أفضل له من الاكتفاء بالاطلاع عليها، ولذلك، فتحرير الكتابة التاريخية من النزعة الوضعية، وتغذيتها بالمادة الأدبية، جعلها فى متناول المتلقّى الذى لم يكتفٍ بالاطلاع عليها، إنما التفكير فيها. وتلك هى غايته من خلع البعد السردى على كتابة التاريخ، وإن كان قد خفّف من تشدّده ذاك فى السنوات الأخيرة من حياته.      

     إنّ مكاسب السرد فى كتابة التاريخ تحرير له من الانحباس فى قيود تحول من دون تفتحه، فلا ثقة بأحداث الماضى إن هى جُرّدت من سياقاتها، ونُظر إليها على أنها أفعال قائمة بذاتها. ومع الإقرار بأنه من شبه المتعذّر أن تكون الأحداث المروية أمينة على ذكر ما وقع فعلا، كونها رهينة الصيغة التى رُويت بها، وأسيرة الحبكة التى انعقدت عليها، فما لها سلطة مرجعية دالة على الصدق، ولا على وثوقية وظيفتها المرجعية، والادعاء بمعرفة حقيقة الماضى كما هى ادعاء مرسل لا دعائم له، وهو ما خُلص وايت إليه بقوله «الواقع شيء، والحقيقة شيء آخر»، إذ لا خلاف على الواقع، أما الحقيقة فشيء مختلف عنه، فهى ما يُستخلص من «التقريرات أو العبارات عمّا اُعتبر موجوداً أو فُهم على أنه «القضية» من منظورٍ بعينه، وفى لغةٍ بعينها، وعلى أساس سلطة مرجعية معينة، ليس لأحدها أن يدّعى الكلية أو الشمول أو الإطلاقية كصفة له”.

 إذن الحقيقة نسبية فى الكتابة التاريخية، وهى تتمرأى فى كلّ موقف، وفى كلّ رؤية، وفى كلّ خطاب، وفقاً لمعايير ذلك الموقف، وتلك الرؤية، وذلك الخطاب. الحقيقة، إن كانت هنالك حقيقة، مرتبطة بزمان ومكان النطق بها، وليس بزمان ومكان حدوثها، أى بكيفيات عرضها لا بكيفيات وقوعها، فتكون « مؤقتة دائماً، وعُرضة للمراجعة فى ضوء الأدلّة الجديدة، ومناهج البحث والتأليف المُستجدة، وتتمنّى أن يُحكم عليها وفقاً لفائدتها فى تقدّم المعرفة نحو روئ جديدة لطرق صناعة الإنسانية لنفسها، بتقنيات التأليف الذاتى أو الصياغة الذاتية، التى لا تجعل على المدى الطويل الحقيقة وحدها نسبية، بل تجعل هوية راوى الحقيقة نفسه نسبيّة». وعلى غير ما كان شائعا فى النظر إلى الكتابة التاريخية من أنها خطاب توكيدى أمين على نقل أحداث التاريخ، رآها وايت «بنية لفظية فى صورة خطاب سردى نثرى يزعم أنه نموذج أو أيقونة لأبنية وسيرورات الماضى من أجل شرح ما كانت عليه تلك السيرورات والأبنية عن طريق عرضها».

أين الجدّة فى معالجة هايدن وايت للكتابة التاريخية التى زعزع بها الأركان الموروثة لتلك الكتابة؟ فيما يأتى جواب تقريبى على ذلك: فى تحليله للأشكال الرئيسية التى اتخذها الوعى التاريخى فى القرن التاسع عشر أقرّ بمديونته للمصادر التى انتفع منها، وأعانته فى استكشاف المسارات الأساسية للكتابة التاريخية، وفى مقدمتها نظريات الخطاب المعنية بتحليل النصوص الأدبية والتاريخية، ومن بينها: أتكأ على الدراسات البلاغية مستعيناً بالأنماط الكبرى للمجاز من استعارة، وكناية، ومجاز مرسل، وتهكّم باعتبارها الأصناف الرئيسية للتخيّل الشعرى والسردي، وهى المعُتمدة فى تحليل الخطاب الأدبي، وتقصّى أثرها فى الكتابة التاريخية، فوجد أن المؤرخين استعانوا بها بما يوافق رؤيتهم للمادة التاريخية، وقد أرغمتهم ضمناً على الانصياع لأعرافها لأنها استبطنت أعمالهم، وحددّت النتائج العامة التى خُلصوا إليها، كما انتفع من نظرية السرد الخيالى عند نورثروب فراى فى استقراره على أربع بنى لحبك المواد التاريخية وهى الرومانس، والتراجيديا، والكوميديا، والسخرية، ولم يغب عنه الإفادة من أطوار استخدام اللغة عنده، ولها صلة بالبلاغة، وهى: الطور الاستعاري، والطور الكنائي، والطور الوصفي. ولاذ وايت بـ «مانهايم» فى تحديده لاستراتيجيات المضامين الأيديولوجية فى أربع نزعات كبرى سادت فى القرن التاسع عشر، وهي: الفوضوية، والجذرية، والمحافظة، والليبرالية، ورأى أن المؤرخين تفاوتوا فى الاستعانة بالموارد الأدبية فى صوغ رؤيتهم للتاريخ الأوروبي، غير أنهم اختلفوا فيما بينهم فى نوع الحجّة أو الحبكة أو الأيديولوجيا فى ضوء نمط المجاز الذى أثر فيهم، وُخلص إلى وجود «تناظر أو جاذبية بين فعل التخيّل المسبق للحقل التاريخي، والاستراتيجيات التفسيرية التى يستعملها المؤرخ فى عملٍ بعينه».

يصحّ القول بأن هايدن وايت، باختياره كبار المعنيين بالتاريخ الأوروبى من مؤرخين وفلاسفة تاريخ، وجسارته فى إخضاع أعمالهم لمنهجية نقدية ذات مرجعيات أدبية، قد حرّر الكتابة التاريخية من قيود العصمة عن الخطأ، وفتح لها الطريق لاستدعاء أحداث الماضى بحرية نسبية تراعى سياقات حدوثها،  وكيفيات تدوينها، والحبكات التى انتظمت فيها، والغايات التى قصدت إليها، وفيها كلها لم يقع الاتفاق على حجّة قاطعة، مما يبطل القول بالموضوعية فى الكتابة التاريخية، فهى تقارب الماضى، أو تستدعى أحداثه، وتخلع عليه معانى متعددة، ومقاصد كثيرة، لكنها أبعد ما تكون عن اليقين النهائى فى صدق أحداثه، فحمل أحداث الماضى مرّ بمنعرجات كثيرة، وكلّ مؤرخ يقف منها الموقف المناسب لرؤيته ومنهجه، ومن مجموع ما يتراكم من تلك الكتابة يمكن رسم سور تقريبية للماضى. 

 اصطنعت الكتابة التاريخية التقليدية هيبة ارتقت بالماضى إلى ما يشبه القداسة، وبخاصة أن تاريخ الماضى منشبك بالظاهرة الدينية، ومتداخل معها، وقد هيمنت عليه، وملكت زمامه، وكانت إلى وقت قريب تصوغ حقبه الأساسية، حتى ليمكن القول بأنّ خلع القداسة على الماضى حجبٌ له عن النظر، وتعطيل مقصود لكى يكون فى منأى عن المساءلة النقدية. لا يقرّ وايت بأن الكتابة التاريخية قادرة على الوفاء بمهمة استجلاب وقائع مضى عليها زمن طويل إلى عصر آخر كما حدثت به، فذلك من المحال، فتمثيلها للأحداث مطعون فيه، إنما هي، جراء ما تستعين به من أساليب بلاغية، تعرض تفسيراتٍ متعدّدة له، يمكن الاعتماد عليها فى تأويل دلالات تلك الأحداث. وبالنتيجة التى خُلص إليها من كون التاريخ ضرباً من ضروب السرد المرجعي، يكون قد طعن فى دعوى التاريخ القائلة بأنه كتابة موضوعية قادرة على الإتيان بالماضى إلى الحاضر كما كان عليه؛ ذلك أن السرد، بضروبه المرجعية أم الخيالية صوغ خطابى لتجارب واقعية أو مُتخيلة، بما يجعل المتلقّى قادراً على إدراك معانى تلك التجارب على وفق استعداداته وخبراته، فالسرد، والحال هذه، ليس وسيطاً محايداً بين التجارب الإنسانية ومتلقيها، إنما هو صانع لها، وخالع للمعنى عليها، فلا تكون ذات دلالةٍ إلا به.