الحرب على غزة | ما وراء المهنة.. حينما يكون الطبيب «ضحية للحرب وفاجعة الفقدان»

صورة موضوعية
صورة موضوعية

يعيش الفريق الطبي من المسعفين والأطباء والممرضين في غزة، حالة طوارئ دائمة وظروف عمل قاسية في ظل استمرار المجازر التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، ويواجهون تحديات كبيرة في مستشفيات القطاع، حيث يعملون ليلًا ونهارًا ويكابدون التعب ونقص النوم، وقد يظلون مستيقظين لفترات طويلة وربما لأيام متواصلة بدون راحة وهم على رأس عملهم.

منذ بداية الحرب في 7 أكتوبر الماضي، لم ترى الطواقم الطبية سوى المصابين والقتلى الذين عانوا من ويلات النزاع، يصدح في آذانهم أصوات البكاء والصراخ الناجم عن كثرة آلام الكبار والأطفال والنساء وأحبائهم ويستقبلون كل مصاب يتفقدون جروحه ويعالجونها، فهم يكرسون كل جهودهم لتخفيف معاناة الكبار والأطفال والنساء ويبذلون قصارى جهدهم لتقديم الراحة لهؤلاء المصابين، وفي حال استشهاد أحدهم يُخبرون ذويه بفقدانه إلى الأبد ويحاولون تخفيف أثقال الفراق، مشاركين إياهم حزنهم وألم الفقدان.

اقرأ أيضًا: حكومة غزة: كل مستشفيات المحافظة خارج الخدمة

واستقبلت المنشآت الطبية في غزة، خلال الشهر الماضي، عددًا هائلًا من القتلى والمصابين، فواجه الأطباء والمسعفون تحديات نفسية وجسدية استثنائية على غير العادة، وكان الأطباء والمسعفون في حيرة من أمرهم، يعيشون بين خوف من القصف الذي يستهدف المناطق المحيطة بالمستشفيات وبين إصرارهم على تقديم الإسعاف رغم صعوبة الظروف وخطورة الموقف، مما يضعهم في توتر نفسي كبير، حيث كانوا يواجهون خطر القصف الإسرائيلي المستمر على القطاع وعلى أماكن عملهم في المستشفيات والعيادات، ما زاد من العبئ النفسي أيضًا على كاهل الفريق الطبي بأكمله.

وعلى الجانب الآخر وفي المقابل، عاشت العديد من الأطقم الطبية تجربة صادمة أيضًا، حيث واجهوا واقعًا مأساويًا باستقبال أفراد من عائلاتهم بين شهيد وجريح، كانوا في خدمتهم أثناء تقديم خدمات الإسعاف، ولكن حتى مع استشهاد أفراد من أقاربهم سواء كانوا من أمهاتهم أو أبائهم أو أبنائهم ومعارفهم وإصابة آخرين، يظلون صامدون في أماكن عملهم، بل ويسعون جاهدين لتقديم الرعاية الطبية بدون كلل في ظل هذه الأوضاع الصعبة التي يعيشونها في القطاع.

ما وراء المهنة.. حينما يكون الطبيب «ضحية للحرب وفاجعة الفقدان»

ويقدم المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة، أشرف القدرة، إحاطة دورية حول التطورات الطبية في القطاع، ويوضح القدرة، خلال هذه الإعلانات آخر الأحداث والمستجدات الطبية، مع إرفاقه بالإحصائيات الخاصة بالضحايا والمصابين، باعتماده على البيانات الواردة من جميع مستشفيات القطاع.

وأكد القدرة، يوم الخميس الماضي، على أن عدد الكوادر الطبية الذين فقدوا حياتهم بلغ 195، ودُمر 51 سيارة إسعاف في ظل هذه الأحداث الصعبة، وأوضح أن الاحتلال الإسرائيلي استهدف بالقصف 130 مؤسسة صحية، مما أدى إلى خروج 18 مستشفى و46 مركز صحي عن الخدمة بسبب الدمار ونقص الوقود في القطاع.

وأشار المتحدث باسم وزارة الصحة الفلسطينية، إلى أن أسماء وأعداد الحالات من جرحى ومصابين ليست دائمًا متاحة بسبب اضطرابات الاتصالات في القطاع، ويتجمع العاملون في الوزارة بالبيانات من مصادر متعددة، بما في ذلك الهلال الأحمر الفلسطيني، لتحقيق توثيق شامل للحالات.

مدير مجمع الشفاء الطبي بغزة: «الخدمات الطبية تُقدم في ظروف غير عادية»

من جانبه، قال مدير مجمع الشفاء الطبي في غزة، محمد أبو سلمية، عبر قناة "بي بي سي" الإخبارية، إن الأطباء والمسعفين وفرق التمريض يستقبلون عددًا هائلة من المصابين والقتلى يوميًا، ويعملون في ظروف صعبة للغاية، حيث يُجبرون على البقاء في المستشفيات بسبب القصف الذي يستهدف منازلهم أو بسبب التهجير القسري.

وأضاف أبو سلمية، أن الفريق الطبي يتعامل مع صعوبات غير مسبوقة، تضاف إلى الضغوط النفسية والإنسانية الكبيرة، نتيجة الظروف الصعبة والمأساوية التي يمرون بها، وأن الخدمات الطبية تُقدم في ظروف غير عادية، والعمل الطبي يتسم بالإنسانية والإخلاص، رغم تحديات القصف ونقص الإمدادات.

«يستقبلون جثامين أحبائهم».. الفريق الطبي يُواجه صدمات نفسية أثناء مزاولتهم المهنة

وقال مدير مجمع الشفاء الطبي في غزة، عن مأساة العاملين في الفرق الطبية الذين واجهوا صدمات نفسية خلال أداء واجبهم، حيث استقبلوا جثث أحبائهم أو أصدقائهم المتوفين أو المصابين، وأن أحدهم استقبل جثة زوجته التي فارقت الحياة في القصف، وآخر كان في وضع نفسي صعب للغاية عندما استقبل جثة ابنه، ومسعف آخر استقبل شقيقه المصاب وحاول إنقاذه لكنه فارق الحياة أمام عينيه، ورغم ذلك، لم يقتنع بفقدانه وواصل محاولات الإسعاف.

ويذكر المدير الطبي بمستشفى الإندونيسي في غزة، أن الفرق الطبية وسط كل الضغوط والتحديات، تتعامل مع حالات صحية صعبة للغاية، ووجود حالات بتر أطراف، وحروق من الدرجة الرابعة، وإصابات في الرأس، وتعتبر هذه الإصابات خطيرة لدرجة أن العاملين في المستشفى يواجهون صعوبة في التعامل معها نظرًا لقلة الإمكانيات المتاحة.


«بين غموض القصف والواجب المهني.. الكوادر الطبية تلزم أماكنها»

وقال، إنه ومع كل قلق وخوف يعتري الطواقم الطبية، ومع الغموض الذي يحيط بهم تحت وطأة القصف المستمر، إلا أنهم يظلون يعملون بتماسك، إنهم لا يستسلمون لأي تهديدات، فالخروج عن مواقعهم يعني وقوع كارثة إضافية ستؤثر على المرضى والمصابين.


طبيب في غزة يحكي مأساته بعد وصول «جثث أسرته لعناية المستشفى»

كان الطبيب إياد شقورة، الذي يعمل كصيدلي في غرفة الطوارئ في أحد مستشفيات غزة أثناء الحرب، يشاهد يوميًا تدفق الجرحى والقتلى، لكنه فقد وعيه ما إن وصلت جثث أطفاله وأمه وأقاربه إلى المستشفى، حسبما أفادت وكالة "فرانس برس" الفرنسية.

فقد عاش الطبيب إياد شقورة، البالغ من العمر 42 عامًا، لحظات صعبة بعد اكتشافه أن أفراد عائلته كانوا ضحايا الغارة التي استهدفت منزلهم في خان يونس، وألقى شقورة نظرة حزينة وأخيرة على أحبائه الذين وُضِعوا في أكفان بيضاء على طاولة المشرحة في قسم الطوارئ.

وبدأ الطبيب إياد، بتسمية أسماء أفراد عائلته الذين فقدهم واحدًا تلو الآخر، بينما كان يعد الأسماء، كان يضيف "فقدت والدتي زينب أبو دية، وفقدت أخوي محمود وحسين شقورة، وأختي إسراء شقورة مع ابنيها حسين ونبيل شقورة"، ووفقدت ابني، فلذتي كبدي عبد الرحمن 7 سنوات، وعمر 5 سنوات".

وقال الطبيب شقورة، بينما كان يضع جبهته على جبهة طفله عبد الرحمن التي كانت ملطخة بالدماء: "كان لدي خمسة أطفال، ولكنه كان عزيزًا بالنسبة لي".

وبألم عميق، وجه الطبيب سؤالًا: "ما الذنب الذي اقترفوه حتى تمثل عليهم أطنان من القنابل والمتفجرات؟"، وأضاف بحزن، "الحمدلله هم ليسوا أحسن حالًا من أطفال سبقوهم عند الله".

وبينما أدى الطبيب صلاة الجنازة في باحة المستشفى ووضعت جثث أفراد عائلته أمامه، قال: "سأدفن أطفالي الآن وسأواصل عملي"، وفي ختامها، أكد أنه سيظل يواصل العمل حتى وسط هذا الحزن الكبير.

وفي ذات السياق، يواجه الأطباء في غزة تحديات هائلة في توثيق بيانات الضحايا، حيث يقومون بكتابة الملاحظات في دفاتر يحملونها في جيوب معاطفهم أثناء أداء أعمالهم في أقسام الطوارئ وغرف العمليات والمشارح المكتظة بالضحايا والمصابين وأقاربهم.

ويتعرض المسعفون والمنقذون لصعوبات كبيرة ومخاطر عظيمة أثناء البحث عن ناجين أو استخراج الجثث من تحت الأنقاض، وكثيرًا ما يجدون أنفسهم مضطرين لدفن الضحايا في مقابر جماعية.

ويحتفظ مديرون في مستشفى "الشفاء" بغزة بسجلات لكل جريح وكل جثة تصل إلى المشرحة، ويتم إدخال البيانات في نظام محوسب مشترك يشمل معلومات مثل الاسم، ورقم الهوية، وتاريخ دخول المستشفى، ونوع الإصابة، وحالة المريض، وفقًا لما ذكرته وكالة "أسوشيتد برس" الأمريكية.

فبين أروقة غزة المحاصرة، يعمل الفريق الطبي تحت وطأة القصف المستمر والهجمات الإسرائيلية الغاشمة، رغم تهديد الاحتلال للمكان الذي يزاول فيه الطاقم الطبي مهنته، ولكنهم يستمرون في تقديم الرعاية الصحية بكل جد لأبناء شعبهم، برغم قلة الموارد والإمكانيات لديهم، ويقدمون كل ما بوسعهم بعِلمِهم المحدود، وبسماعتهم الطبية ومشرط الجراحة الصغير، آملين في اسعاف كل المصابين وضم جِراحهم، لا يملون، ولا يستسلمون كغيرهم من أبناء القطاع الأبرياء العُزل ثابتين صامدين على أرض غزة..