الوجوه ومادة الحياة فى معرض مصطفى عيسى

 معرض مصطفى عيسى
معرض مصطفى عيسى

دائما ما كان هناك سؤال يطرح نفسه فى الذهن طوال الوقت.. ألا وهو: مم تتكون مادة الحياة التى نعيشها بشكل يومى؟ والسؤال هنا ليس معقداً كما يتبدى من الوهلة الأولى، وذلك لأنه سؤال عن تجربتنا المباشرة مع ضرورة الأشياء التى نتعامل معها والمتعلقة بموضعنا أو مكاننا وسط أشياء العالم، والتى هى رغباتنا المحددة وأذواقنا واهتماماتنا.

إن العالم اليومى الذى نجوع فيه ونمارس الحب يصعب أن يكون هو نفسه فقط العالم الموضوعى المحدد حتمياً بعلم الرياضيات، ومادة العلوم التى تكرس له نفسها، فبالرغم من كل تلك الحقائق الميكانيكية التى تحيط بنا فإن العالم الذى نجد فيه أنفسنا قبل أن نبدأ بإحصاء وقياس دنياه هو ليس مادة تحددها تلك الإحصاءات والقياسات، ولكنه حقل حى مفتوح، ديناميكى حيوى فى أرضيته وعرضه لمزاجياته وروحانياته الخاصة.

إن احترامنا لتلك المعرفة المباشرة للتجربة التى نعيشها هو الذى يستوجد جملة الشغف لكل واحد منا طبقاً لموقعة من تجربته مع الأشياء والوجود.. إذاً فكل معرفة تتجلى طبقاً لمدى قربنا من الأشياء..

فى مجموعة الوجوه «Portraites» التى يفصح عنها مصطفى عيسى فى معرضه، تطالعنا الطاقات اللونية بحكاياتها، إنها أشبه برموز لونية اكتسبت دفقاتها معناها من التجربة المباشرة للفنان فى استقصاء الخبرات التى كونها مع التلوين.

إن مصطفى عيسى يوظف ويعجن خبرته بالتراكمات اللونية التى يتحول فيها الوجه إلى طريق.. إلى رحلة يأخذنا فيها الفنان لنتعرف على الحضور الإنسانى فى كل وجه، إنه داخل كل تلك الوجوه كان يفصح عما يعلمه من الأرض ومن النهر ومن الأشجار التى كانت تنموا على حافة المصرف المائى فى بلدته، ينبت الوجه مرة كشجرة ومرة كزهرة ومرة أخرى كإنسان يحمل كل تلك الطبقات فى تفاصيل حضوره على المسطح.

إنه يدمج مادة الحياة باللون، أو بالأحرى بالخبرة المباشرة مع اللون، ونعنى بالخبرة المباشرة هنا إعادة إيقاظ التجربة التى يحتك بها الفنان مع العالم حتى تتحول الرموز البصرية من كونها مادة على المسطح إلى حياة أخرى فى خبرة العين والروح.

يتنوع معرض مصطفى عيسى بين التجارب التى خاضها فى التعرف على تفاصيل روح الخامة فى تجربة (الحوائط) والتى عرض مجموعتها فى معرضه «وطن لا يصدأ»  2017بأتلييه الإسكندرية فى ذلك الوقت، وما بين مشروع الشجرة الذى عرضه فى معرضه بقاعة الباب 2021، وما بين مجموعة أعماله الحديثة التى ضمت الوجوه و اندماج الصيغ المتعددة لتجربة الفنان التى تتراوح مابين عامى 2009 وحتى الآن.

ما يطرحه هذا المعرض هو حالة البحث، تلك الحالة التى تتعدد وتتنوع وتستعيد نفسها فى تفاصيل حركة الفنان مع السطح، فما الذى يربط كل تلك التجارب ببعضها كجملة يصيغها الفنان إلى المتلقى؟ 

إن الرابط الواضح هو البحث عن خصوصية لونية ، ويعنى هذا التنقيب عن روح اللون فى كل التجارب التى يخوضها الفنان ، فلم يبحث الفنان هنا عن خصوصية شكلية فقط، وإنما كان الفنان يتجاوز بشكل دائم حالة الشكلية فى تناوله للعناصر التى يتفاعل معها ويعيد صياغتها مرة بعد أخرى بشغف المجرب .. ما معنى تجاوز الشكلية Formalist  فى أعمال الفنان مصطفى عيسى؟؟

ونجد الإجابة مرتبطة بما قدمنا به ذلك النص، الذى يطرح مفهوم (الظاهراتية) وهنا نتكلم عن الفرق بين علم الجمال والفن، من ناحية أن علم الجمال يتعامل مع آراء وافتراضات مبنية على مدركات وملاحظات عن العالم ككل، ففى الماضى كانأحد طرفى وظيفة الفن هو توظيفه كأداة تزيينيه ، لذلك كان علم الجمال كأى فرع من فروع الفلسفة يناقش الجمال وكيفية تذوقه، إذ كان من شأنه أن يناقش الفن أيضاً، وبتثبيت تلك العادة تولدت فكرة عن وجود رابطة مفاهيمية بين الفن وعلم الجمال، وهى تكاد تكون فكرة خاطئة ، إذ لم يكن هناك تناقض جوهرى فى السابق حول علاقة الجمال والفن، من خلال الخصائص الشكلية لفن تلك العصور التى حافظت على ذلك الخطأ وقد ساهمت الموضوعات والوظائف المتعددة للفن فى تعميقه(كتصوير الموضوعات الدينية ، رسم البورتريهات الأرسطقراطيين، رسم تفاصيل العمارة).. لقد عاشت كل تلك الأشياء وأستخدمت لتخفى الفن الحقيقى، وهو فى معناه الفن الذى يتخطى وظيفته وتوظيفه، ليس على المستوى النفعى فقط، ولكن أيضاً على مستوى الوعى بالرابط الموضوعى والمفاهيمى للعمل الفنى.

يعود ذلك بنا إلى ما يقدمه مصطفى عيسى فى معرضه.. لنتقصى جملته الجمالية، والتى هى فى حقيقتها بحث تجريبى لاستحضار صيغة جمالية تخص العمل فى ذاته، لذلك نجده يشحن مسطحه بطاقات متعددة للخامة، فنجده فى مجموعة الحوائط يترك الخامة تفعل فعلها على المسطح، فتتفتح وتتسع نقاط الصدأ بين العلامات والإشارات التى تحيلنا لتاريخ يدخلنا فيه الفنان ويجعلنا جزءاً منه، وذلك التاريخ هو المفهوم المتضمن فى العمل ولا ينفصل عنه، فنجد هنا مكوناً جمالياً خاصاً نشعر ونتماس فيه مع حركة يد الفنان ومع لمسات أدواته، إنه يحيلنا لمنطوق جمالى يشحننا بالطاقة والقرب من تاريخ تلك الحوائط وبالتالى من تاريخ ذلك الوطن الذى تفتحت فيه الطفولة ونقشت عليه الأحلام رحلتها المُحِبة، وأيضاً عاشت  فيه القلوب أحزانها وآمالها المنهارة فى لحظات العسرة.

ويربطنا مصطفى عيسى بتاريخ الشجرة  (شجرة الجميز) تلك التى تتحمل كل أنواع المتغيرات فى البيئة والأرض، لتشكل رسوخا قوياً شاهداً على المكان واستمرارية الحياة فيه، وقد قام الفنان بدمج ألوان الأرض وألوان النبات مع النظرات الإنسانية باعتبارها هى الأخرى نبتة من روح الأرض.. وهى محاولة فى وجدان الفنان أن يستحضر تاريخه المعرفى مع المكان والبيئة التى أنشأته ونما فيها. إذ نعود لنقول إن التأمل يلعب دوراً أساسياً فى منظومة الفنان البصرية ، وذلك لأنه يعنى أن نشاهد العالم داخل أنفسنا، أن الفنان يمضى داخل الوجوه بمحاولة صافية لتلمس معالم الوجه وتفاصيله فتكون كل الظلال الناعم منها والخشن علامات تُبنى فى تاريخ الوجه ، والعلامة هنا  هى لغة الإشارة إلى كيان جمالى، إن جاز التعبير ، حيث يحيلنا إلى قيمة جمالية تسرى داخل الوجه، فقد يكون الأداء فى لحظة هو محاولة الانفلات من المعرفة الشكلية التى تأتى إلينا حينما ننظر لبعضنا البعض، لأنها، أى تلك القيمة وبشكل دائم تدخلنا فى عمق النظر وربما فى عمق التأمل أيضاً، فأعتقد أن مصطفى عيسى فى رسم الوجوه Portraits  يحقق عمق لحظة حضوره النفاذة ليس فقط كفنان يمتلك أدواته، ولكن فى الحقيقة كإنسان يبحث عن ديمومة الطيبة والمحبة فى وجوهه.

إن الوجوه فى تجربة مصطفى عيسى هى كيان محورى فى جملة عمله، الأمر الذى يدعونا للعودة أكثر من مرة للإشارة إلى دمج الوجوه فى العناصر الأخرى المتكونة فى العمل، فهو فى غالب تفاصيل عمله على المسطح ثمة وجه بشكل دائم ربما يراقب ذلك العالم، وربما هو وجه طالع بكل ما يتحرك مع ذلك الكون، هناك دائماً عينان تنظران وربما تنتظران حدث ما وربما كانتا عينا للرجاء.. رجاء الطيبة أو السماحة بين الإنسان والوجود.. بين الإنسان والخليقة.

بناء على كل ذلك فإن الفعل التشكيلى لدى مصطفى عيسى هو فعل استكشاف حركة اللون مع المسطح، لأنه لم يكن معنياً بصياغة عناصر متعينة تحمل دلالات أسلوبية، ولكنه دئم الحراك مع السطح ليحقق خصوصيته فى لمساته، فى نعومة وصله مع أدواته، إنه يتغير فى كل لحظة مع اللون، وينفذ فى مكونه، كأن روحه هى التى تتنفس اللون والمساحة والخط.

ذلك هو مكان التجريب والبحث ومن ثمة حيز الحركة فى أداء الفنان، مما يجعلنا نتساءل عن علاقة الحداثة فى الموضوع البصرى وما يطرحه علينا الفنان من جهته (إن الحدث الذى تحقق فيما يخص الحداثة فى الفنون البصرية هو إمكانية التحدث عن الفن بلغة أخرى تخص فى جزء منها ال Concept حيث يكون الشرط الفنى هو حالة مفاهيمية، وأن أشكال اللغة التى يدخلها الفنان فى عمله من أجل إبراز موضوعاته هى عادة ما تكون شفرة خاصة) أو أن اللغة تصبح حصيلة لابد منها من أجل تحرير الفن من ضغوطات الشكلية، ويزعم البعض أنه لابد للفن المعاصر من أن يكون أليفاً لنا من أجل أن نفهمه مثلما يمكننا أن نفهم لماذا لا يتعاطف رجل الشارع مع العمل الفنى الخاص، ودائماً يطالب بفن ذى لغة تقليدية ، حيث يمكننا أن نفهم لماذا يباع الفن الشكلى مثل وجبة ساخنة. 

وما أطلق عليه الفنانون الشكليون «فن الحداثة» كان معادلاً لإيجاد لغات جديدة، إلا أن اللغة الجديدة تلك لا تعنى بالضرورة تأطير المعلومات والموضوعات الجديدة: مثال على ذلك الفن الحركى والفن الإلكتروني.

كل تلك المفاهيم تسعى لإيجاد حرم خاص ومستقل للعمل الفني، بينما تنتمى العملية الفنية فيما يخص التشكيل إلى السياق البصرى للتفكير ولغته، حيث يكون على الفنان أن يتفاعل مع الطبقات المكونة للأفكار ومن ثمة المواضيع المعرفية مما يضع عمله فى كون منفتح تتسع فيه المقولة وتبدأ فى بناء ذاتها لتكون طبقاتها المعرفية الخاصة.

من هنا ينتمى عمل مصطفى عيسى إلى ذلك التطلع للبقاء والنماء.. إن العمل الذى سينتمى لحركة الإنسان وبقائه على الأرض هو العمل الذى لديه عناصر البقاء والاستمرارية لأن جملته تظل تتفاعل مع إمكانية التفتح واستقبال العالم.. العمل الذى يشكل تاريخاً خلف التواريخ المتاحة للمجتمع والتى تشكلها أحداث وسياسات آخذة فى استهلاك كل ما هو حسى مشبع للحظة.

إن جملة الفنان مصطفى عيسى فى هذا الوقت بالذات هى جملة تحاول الفصل ما بين ما يزعم بانتمائه للعمل الحداثى فى الفن وبين ما تخلص له روح الفنان وضميره وشغفه الذى يشكل كل ما لديه من لغة القرب مع القيمة والبحث والتجريب العميق لتصفية لغته من التواريخ والافتراضات المسبقة عن طبيعة الأشياء المستعملة داخل الفن.