خواطر الإمام الشعراوي .. «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ»

الإمام الشعراوي
الإمام الشعراوي

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية رقم (214) من سورة البقرة: «أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» يقول : «متى نَصْرُ الله»؟.

ويأتى بعده القول: «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ» فهل يتساءلون أولاً، ثم يثوبون إلى رشدهم ويردون على أنفسهم «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ» أم أن ذلك إيضاح بأن المسألة تتأرجح بين «متى نَصْرُ الله» وبين «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ»؟. لقد بلغ الموقف فى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الاختيار والابتلاء إلى القمة، ومع ذلك واصل الرسول صلى الله عليه وسلم والذين معه الاستمساك بالإيمان.

لقد مستهم البأساء والضراء وزلزلوا، أى أصابتهم رجفة عنيفة هزتهم، حتى وصل الأمر من أثر هذه الهزة أن «يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ». إن مجيء الأسلوب بهذا الشكل «متى نَصْرُ الله» يعنى استبطاء مجيء النصر أولاً، ثم التبشير من بعد ذلك فى قوله الحق: «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ». ولم يكن ذلك للشك والارتياب فيه.

وهذا الاستبطاء، ثم التبشير كان من ضمن الزلزلة الكبيرة، فقد اختلطت الأفكار: أناس يقولون: «متى نَصْرُ الله» فإذا بصوت آخر من المعركة يرد عليهم قائلا: «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ».

وسياق الآية يقتضى أن الذين قالوا: «متى نَصْرُ الله» هم الصحابة، وأن الذى قال: «ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ» هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم ينتقل الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك إلى قضية أخرى، هذه القضية شاعت فى هذه الصورة وهى ظاهرة سؤال المؤمنين عن الأشياء، وهى ظاهرة إيمانية صحية، وكان فى استطاعة المؤمنين ألا يسألوا عن أشياء لم يأت فيها تكليف إيمانى خوفًا من أن يكون فى الإجابة عنها تقييد للحركة، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذرونى ما تركتكم، فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه».

ورغم ذلك كانوا يسألون عن أدق تفاصيل الحياة، وكانت هذه الظاهرة تؤكد أنهم عشقوا التكليف من الله؛ فهم يريدون أن يبنوا كل تصرفاتهم بناءً إسلاميًا، ويريدون أن يسألوا عن حكم الإسلام فى كل عمل ليعملوا على أساسه.

وبعد ذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ» والسؤال ورد من عمرو بن الجموح وكان شيخًا كبيرًا فقال: يا رسول الله، إن مالى كثير فبماذا أتصدق، وعلى من أنفق؟ ولم يكن يسأل لنفسه فقط، بل كان يترجم عن مشاعر غيره أيضا، ولذلك جاءت الإجابة عامة لا تخص السائل وحده ولكنها تشمل كل المؤمنين.

والسؤال عن «مَاذَا يُنْفِقُونَ»؛ فكأن الشيء المُنْفق هو الذى يسألون عنه، والإنفاق كما نعرف يتطلب فاعلاً هو المُنْفق؛ والشيء المُنفَق هو المال؛ ومنفَقًا عليه.

وهم قد سألوا عن ماذا ينفقون، فكأن أمر الإنفاق أمر مُسَلَّمُ به، لكنهم يريدون أن يعرفوا ماذا ينفقون؟ فيأتى السؤال على هذه الوجه ويجيء الجواب حاملا الإجابة عن ذلك الوجه وعن أمر زائد. يقول الحق: «يسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ» هذا هو السؤال، والجواب «قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ».

إن الظاهر السطحى يظن أن السؤال هو فقط عن ماذا ينفقون؟ وأن الجواب جاء عن المنفق عليه. نقول: لا، لماذا نسيت قوله الحق: إن الإنفاق يجب أن يكون من (خير) فالمال المُنفق منه لابد أن يتصف بأنه جاء من مصدر خير. وبعد ذلك زاد وبيّن أنه: مادمتم تعتقدون أن الإنفاق واجب فعليكم أن تعلموا ما هو الشيء الذى تنفقونه، ومَنْ الذى يستحق أن يُنْفَقَ عليه. «قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ».

والخير هو الشيء الحسن النافع. والمُنْفَق عليه هو دوائر الذى يُنْفِق؛ لأن الله يريد أن يُحَمّل المؤمن دوائره الخاصة، حتى تلتحم الدوائر مع بعضها فيكون قد حمّل المجتمع على كل المجتمع، لأنه سبحانه حين يُحَمّلنى أسرتى ووالدى والأقربين، فهذه صيانة للأهل، وكل واحد منا له والدان وأقربون، ودائرتى أنا تشمل والديّ وأقاربي، ثم تشيع فى أمر آخر؛ فى اليتامى والمساكين.

وهات كل واحد واحسب دوائره من الوالدين والأقربين وما يكون حوله من اليتامى والمساكين فستجد الدوائر المتماسكة قد شملت كل المحتاجين، ويكون المجتمع قد حمل بعضه بعضًا، ولا يوجد بعد ذلك إلا العاجز عن العمل.

وعرفنا أن السائل هو (عمرو بن الجموح)، وكانت له قصة عجيبة؛ كان أعرج والأعرج معذور من الله فى الجهاد، فليس على الأعمى حرج، ولا على الأعرج حرج ولا على المريض حرج. (وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج من غزوة فجاءه عمرو بن الجموح وقال: يا رسول الله لا تحرمنى من الجهاد فإن أبنائى يحرموننى من الخروج لعرجتي.

قال له النبى صلى الله عليه وسلم: إن الله قد عذرك فيمن عذر. قال: ولكنى يا رسول الله أحب أن أطأ بعرجتى الجنة).