قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: د. شيحة.. رجل النعناع!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

كل الصُّور تخفت وتبهت إلا عواصف الذكريات، فإنها تبقى كامنة في مغارات العقل وتلافيف الشعور حتى تُخرجها موجبات الحوادث وبواعث الاستدعاء؛ ومنها صورة كانت تقفز لحظيًّا من طفولتي إلى ذهني كلما رأيتُ أستاذي الدكتور عبد الحميد شيحة (رحمه الله)، وهي لرجل من أهل الله ذي لحية بيضاء، ويلبس جلبابًا أبيض وطاقية بيضاء، يمشي في طرقات القرية يوزّع حبَّات النعناع "الفرط" على الأطفال الذين يُحيطون به من كل جانبٍ وكأنهم طوّافٌ وهو كعبتهم، ويدورون حوله رافعين أيدي الرجاء ليُعيد عليهم نفحاته النعناعية؛ وهكذا كان أستاذي الدكتور عبد الحميد شيحة (رحمه الله)، وهكذا كنا حوله؛ يمنحنا نعناع المودة والأدب فلا نشبع، ونطمع في المزيد فلا يبخل.  

عند القبور ترتجف القلوب وتختلف: ما بين قلبٍ ينزف للفراق، وآخر مُجامل للنازفين، وثالث مُحايد يؤدي واجبه ويمضي؛ فالقلوب قُلّب، ورُب غائبٍ حبسه العذر أشدّ لوعة من حاضر؛ وتبقى رهبة الموت ورائحته النافذة فاغرة شدقيها، فاردة جناحيها، فارضة حضورها الطاغي على الجميع؛ باعثة في النفوس رهبة الوجل من المحتوم الآتي، ولو بعد حين. 

في امتياح الماضي من مغارات الذاكرة مراح للأرواح المُجهدة واسترواح للنفوس القلقة؛ ورغم ما لأساتذتي من مكانة سامية في ذات ذاتي ومكمن روحي ووجداني، فإنني أتيبّس عند رثائهم، إذ أعتقد دومًا أن هناك ما لا يستطيع الكاتب أن يصل إلى كُنهه في قلبه مهما بلغت مهارته؛ يتحجّر قلمي في الرثاء وينثال في القدح والبغضاء؛ وشتان بين باعثي الرثاء والجفاء، الأول تكبحه الصدمة وتلجمه البغتة، والثاني يُشعله الشيطان ويُذكيه الخذلان؛ وما زلتُ أذكر كيف أنني كتبتُ على اللاب مقالًا كاملًا يقدح ويسخر ويتجرّأ على أستاذي بعنوان (ملاعيب شيحة!) إثر تشدده عليّ في الدراسة، إذ كان أمله كبيرًا في شخصي، فإذا تكاسلت هبَّ هبّته الأسدية فزجرني؛ حتى إذا انتهيتُ من الكتابة وهممتُ بإرسال المقال للنشر زارتني ضحكاته الصافية ووجهه البشوش وإشادته بي، فحذفت المقال مستغفرًا الله من زلتي وراجيًا إقالة عثرتي التي كدتُ أقع فيها، ثم حمدت الله على العافية.  

لم يكن د. شيحة (رحمه الله) مجرّد ناقد فذّ، أو مترجم نحرير، أو لغوي مجمعيّ قدير، فقط؛ بل كان مرفأ نأوي إليه حين تدهمنا الشواغل؛ فإذا هو الأب والأخ والصديق؛ وإذا بهذا الجبّار العتيّ الذي يخشى الجميع صولاته دفاعًا عن مبادئه، هادئًا مُنصتًا إليك باهتمام، ثم يهمّ عاجلًا في إزاحة تلك العقبة الكأداء التي تقف في طريق حياتك ويبدأ اتصالاته بكل معارفه كأن المشكلة حملٌ على عاتقه هو، لا أنت، ولا بد من سبيل إلى إزاحته، ثم لا يتركك إلا بالحلّ أو وعد بالحلّ.

كنا نجلس أمامه وحوله على بساط الأدب؛ تحدونا الجرأة والثقة في انفتاحه على سماع الآراء المغايرة وإيمانه بحرية الرأي في مخالفته ومقاطعته، فنغاضبه ونُعابثه ونضاحكه، فلا يغضب أو يملّ حديثنا.. وأشهد أنني كنت أشدّ زملائي إلحاحًا في الأسئلة الشخصية والعلمية على السواء، تدفعني لذلك مهنتي الصحفية وتخمة من خزائن معلومات وتراكم خبرات شكّلتها رحلاته من إنجلترا إلى باكستان إلى الجامعة الأمريكية إلى جامعة القاهرة إلى مجمع اللغة العربية، وكان هو يجيبني قدر طاقته أو قدر رغبته؛ حتى إذا يئس من الرجاء في صمتي رفض الإجابة باسمًا وقال: يجب تأجيل الصحافة إلى لقاءات أخرى.

تتنافر مواقفه البارزة وتتدابر مُفسحة الطريق لتتقافز مواقف أخرى أقلّ شأنًا، أو هكذا يبدو، وأبرزها- في رأيي- إحياؤه أعمال المنتدى الثقافي بمجمع اللغة العربية، فأعاد المجمع إلى جمهور المتابعين، وأعاد الجمهور إلى المجمع بعدما صدف عنه سنواتٍ طوالًا، وكانت هذه المؤتمرات التي يُعطيها جلّ وقته ويُناقشنا في عناوينها وفقراتها تلقى إقبال المتخصصين والشباب فتزدحم القاعة الكبرى بالمجمع؛ ويقول هو ممازحًا عند افتتاح أحد المؤتمرات: "إن هذا المجمع قد آن له أن يأمن بعد خوف فقد أصبح له الآن درع وسيف"، يقولها مُقلدًا الرئيس السادات بلغته القوية الرصينة، وبمخارج حروف أنبتتها بيئة واحدة، ولا غرو في ذلك فكلاهما قريب من قريب، والمسافة بين "تطاي" مركز السنطة- غربية، وميت أبو الكوم- منوفية، مجرد فركة كعب؛ وكلاهما رئيس في مجاله قائد في الدفاع عن رأيه ووجهة نظره، ولو كلّفه ذلك معاداة المُخالفين الباغين، أو مُحاربة الناس أجمعين.

الأمر الثاني هو اتخاذه من إعادة ترميم وصيانة مسجد "سيدي حسن المغربي" الأثري بقريته "تطاي" قضية شخصية له، وقد علمتُ من غيره أنه بذل لأجل هذا المسجد الكثير من ماله ووقته وجهده؛ وقد شهدتُ بعض ذلك وشاهدته فكنتُ وسيلته للتواصل مع وزير الأوقاف الدكتور محمد مختار جمعة، الذي لم يتأخر وأمر وكلاء الوزارة بدعم إعادة ترميم المسجد بصورة عاجلة؛ غير أن القدر لم يُمهله حتى يرى نتاج غرسه وثمرة سعيه، فقد رأينا المسجد عند جنازته ولا يزال يحتاج إلى مزيد من الدعم المادي من الأوقاف والمتبرعين من أهل الخير على السواء، إذ إن مساحته كبيرة، ولا يزال الطريق طويلًا حتى يتم افتتاحه؛ وأثق أن وزير الأوقاف لن يتأخر أبدًا في تحقيق الحلم الأخير للدكتور عبد الحميد شيحة- وهو يحفظ له مكانته العلمية والأدبية- في الانتهاء من ترميم المسجد، وكذلك تلاميذه من ذوي اليسار.

سلام إلى روحك الطاهرة- أستاذي الجليل- في عليين، سلام عليك وعلينا إلى يوم الدين، وسلام على الأدب والمتأدبين بعدك فقد فقدوا الماء المعين!