فرحة.. مشاهدة تاريخ النكبة من ثقب في الجدار

فيلم "فرحة"
فيلم "فرحة"

القضية الفلسطينية بكل ما تحمله من أحداث وشخصيات ووقائع قد تغلب في قسوتها ما يدور في عقول أشرس المولفين المتعطشين في رواياتهم للقتل والتعذيب وسفك الدماء وباتت معاناة هذا الشعب تفوق أي خيال. لكن الجيل الجديد من صناع الأفلام سواء في الداخل أوالخارج، قرر التركيز على المنظور الإنساني من خلال اعمال تخرج في ظروف انتاجية صعبة، ولكنها رغم ذلك تستطيع المنافسة والتأثير على المستوى الدولي مثل فيلم "فرحة" للمخرجه الأردنية من أصل فلسطيني دارين سلام.

شارك فيلم فرحة لأول مرة في مهرجان تورونتو السينمائي 2021 ثم شارك في 40 مهرجان دولي كما اثار جدلا كبيرا فور عرضه بمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي العام الماضي وحاز على كثير من الجوائز لكنه اثار جدل كبير فور عرضه على منصة نتفليكس في ديسمبر 2022.


خلال العقد الماضي خرجت أفلام كثيرة ترصد المعاناة الفلسطينية من خلال أحداث وشخصيات تكافح للاستمتاع بحياة شبه طبيعية وسط الصراع مثل فيلم "200 متر" لأمين نايفة الذي يرصد معاناة أب يفصله عن زوجته واطفاله 200 متر من الجدار العازل أو قصة حب بين رجل وإمراة في الخمسين من عمرهم كما هو الحال في فيلم "غزة مونامور" للأخوين عرب وطرزان ناصر أو تقديم موقف بسيط وساخر لقوات الاحتلال التي تستعين بمواطن فلسطيني ليرشد سائحة على الطريق الصحيح فمن ادرى بالبلاد أكثر من أصحاب الأرض والقضية وهذا ما ينجح دائما المخرج ايليا سليمان في تقديمه من خلال اسلوبه الساخر الذي ظهر أيضًا في فيلمه "إن شئت كما في السماء" وأعمال أخرى كثيرة تركز على المعاناة التي يعيشها الفلسطيني اليوم سواء داخل الاراضي المحتلة أو في أي دولة أجنبية. 

لكن ما يميز فيلم "فرحة" هو رصدها لأحداث تاريخية للنكبة وقررت المخرجة أن تغرد خارج سرب معاناة أبناء الألفية الثانية لتقدم فيلم تاريخي يوثق احداث الهجوم على القرى الفلسطينية عام 1948. تدور أحداث الفيلم حول "فرحة" (كرم الطاهر) الفتاة الفلسطينية الجميلة بزيها التراثي المطرز التي تقضي وقتها في القراءة بين اشجار الزيتون وتشع عيناها ذكاء وحماس وتحدي ورغبة في التطور والتعلم والنجاح، تمام مثل دولة فلسطين، الارض المقدسة التي تمتلك موارد كان من المفترض ان تضمن لها النمو والرخاء.

بسلاسة تعرض المخرجة في بداية الفيلم أزمة "فرحة" التي تبلغ من العمر 14 عاماً وتتحدى تقاليد قريتها في الزواج المبكر وتطالب بحقها في التعليم وأمام إصرارها يقرر والدها (أشرف برهوم) ان يرسلها للمدينة لدخول المدرسة.

وبين ليلة وضحاها انقلبت "الفرحة" لنكبة بعدما تعرضت قريتها لهجوم من قوات الاحتلال الإسرائيلية، وخوفا على حياتها، يخفيها والدها في غرفة لتخزين الطعام تمكث فيها لايام تعتمد على قليل من الطعام الصالح للإستخدام وسط غرفة مظلمة لا يدخلها سوى شعاع خفيف من الشمس من خلال ثقوب في الجدرا والباب الخشبي ولا يصلها سوى اصوات الانفجارات والاعيرة النارية واقدام الجنود والدبابات ومن خلال ثقب في الباب تشهد فرحة على واحدة من أبشع المجازر التي نفذتها قوات الإحتلال وهي إعدام عائلة فلسطينية مكوّنة من أب وأم وبنتين صغيرتين، بينما يترك طفل مولود حديثا وحده على الأرض حتى يموت، وتدخل فرحة في حالة من الانهيار والغضب تقوم بعدها بتقطيع أكياس حفظ الحبوب وتجد بداخلها سلاح بسيط تستخدمه لضرب اقفال الباب والخروج من مخبأها لفرصة جديدة في الحياة.


استخدمت المخرجة بحذر حالة الحصار والعزلة والظلام في الغرف المغلقة لتضع المشاهد طوال فترة عرض الفيلم في ظروف مشابهة لما يعاني منه الشعب الفلسطيني طوال 75 عامًا لكن دون السقوط في فخ الملل، فلا يوجد منفذ سوى هذا الثقب الصغير للتحرر من الحصار والعزلة.

ولكن الأهم هو روايتها لواحدة من المجازر الاسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني وعرض تسلسل زمني بسيط لبداية الصراع وسط موجه من الأفلام التي أغفلت أهمية تناول تاريخ الاحتلال وما كانت عليه فلسطين عام 48، فلم تكن الأرض بلا شعب أو هوية، بل كانت أرض لشعب يمتلك أحلام وطموح وتاريخ. 


"فرحة" هو التجربة الاولى لدارين سلام في إخراج الأفلام الطويلة كما ان الفيلم أيضًا من تأليفها، وهو ما يمكن ان يفسر حالة الارتجال التي تسيطر على بعض الاحداث والشخصيات الثانوية في الفيلم باللإضافة للتشوش في ردود افعال "فرحة" على بعض المواقف، فقد قدمت دارين أفلام قصيرة مميزة حصل بعض منها على العديد من الجوائز، وتمّ عرضها في المهرجانات العالمية، من بينها فيلما "لا زلت حياً" و"الظلام في الخارج" لكن يظل "فرحة" هو التجربة الأكثر تميزًا وإثارة للجدل بين أعمالها بعدما انتقده ساسة اليمين المتطرف في إسرائيل فور عرضه لأنه مأخوذة عن قصة حقيقية لفتاة اسمها "رضية" وأظهر تاريخ المذابح الممنهجة للإحتلال في حق العائلات الفلسطينية منذ بدء الصراع وقبل خروج حركات المقاومة.