يوميات الاخبار

ذكريات وآلام عمرها 22 عاماً

طاهر قابيل
طاهر قابيل

«ذهبت إلى مركز لعلاج الأطفال المصابين باضطرابات وأمراض نفسية من أصوات الانفجارات وهجمات المقاتلات الإسرائيلية من طراز «إف-16» التي أصابتهم بإعاقة دائمة وبتر في الأطراف

ماحدث فى سنوات الإحتلال البغيضة وعلى مدى الأيام والأسابيع الماضية من عدوان همجى على أرض غزة وحياة الغزوية الآمنين وصمود الفلسطينيين أمام الملايين من أطنان المتفجرات التى تنفجر فى كل مكان وسقوط الشهداء والمصابين ومعظمهم من الأطفال والنساء ورفض أبناء غزة والضفة والقدس وعرب 48 ترحيل الفلسطينيين إلى سيناء والأردن والقضاء على القضية الفلسطينية.


أعادت لى مشاهد الدمار والخراب فى غزة ذكرياتٍ أليمة لا تُنسى عمرها 22 عاماً عندما كلفنى المرحوم الأستاذ جلال دويدار رئيس تحرير الأخبار فى عام 2001 بمهمة صحفية إلى غزة لمتابعة تنفيذ اتفاق جورج تنت مدير المخابرات الأمريكية أثناء ولاية الرئيس جورج بوش الابن بين الفلسطينيين والإسرائيليين وذلك بعد اشتعال انتفاضة «الأقصى الثانية» التى اندلعت فى نهاية سبتمبر 2000 وتصاعد الأعمال العسكرية لجيش الاحتلال مع أفراد المقاومة الفلسطينية وسقوط شهداء ومصابين من المدنيين وذلك بعد دخول أريل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلى باحة المسجد الأقصى برفقة حراسه مما دفع المصلين إلى التجمهر والتصدى له وأصبح الطفل الفلسطينى «محمد الدرة» ذو 11 عاماً رمزاً للانتفاضة بعد عرض التليفزيون الفرنسى صوراً له والرعب على وجهه وهو يحتمى إلى جوار والده ببرميل أسمنتى بشارع صلاح الدين جنوب مدينة غزة.


خطة تينت1
طلب منى الأستاذ جلال متابعة تنفيذ الخطة بعد موافقة الحكومة الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية عليها وعلى الالتزام بالاتفاقات الأمنية التي تم التوصل إليها فى قمة شرم الشيخ ووقف إطلاق النار والعنف وتنشيط لجان التنسيق الأمنى وإطلاق سراح المعتقلين الذين لم تثبت علاقتهم بأنشطة إرهابية ووضع جدول زمنى لرفع الحصار الداخلى وفتح الطرق وتجاهل تنت عن عمد الجانب السياسى وقام بترحيله إلى مفاوضات لاحقة! فاستمرت إسرائيل بملاحقة ومطاردة نشطاء الانتفاضة بدعوى مكافحة الإرهاب! فانهار الاتفاق أمام أول عملية فدائية واستمرت إسرائيل فى القتل ومصادرة الأراضى وفرض الطوق الأمنى والحواجز .


لم يكن أمامى فى تنفيذ المهمة سوى 8 أيام للسفر والعودة والتغطية وحاولت الدخول لغزة من معبر رفح البرى بالتنسيق مع السفارة الفلسطينية فكان الرد أن المعبر ليس تحت سيطرة السلطة الفلسطينية وأن السبيل لذلك هو مطار «تل ابيب» أو السفر للأردن والدخول عن طريق الضفة الغربية .. وكانت رحلة الطيران التى استغرقت ساعة تقريباً ووصلت أنا وزميلى الفنان أشرف شحاته مصور الأخبار فى الثانية من صباح يوم الجمعة وكنت قد نسقت مع الصديق طارق عبد الجابر مراسل التليفزيون المصرى فى القدس وحجز لى غرفة فى الفندق الذى يقيم فيه ويتخذ منه استوديو لإرسال رسائله الإخبارية للتليفزيون المصرى واتصلت أنا وزميلى وصديقى المرحوم ياسر رزق مع زميلنا مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط بغزة ووعدنى بإرسال سيارة لتقلنى من المطار وأخبرنى السائق المقدسى الذى كان فى انتظارى إنه من الأفضل ألا نذهب ليلاً ومن الأفضل أن يكون ذلك نهاراً فقررت قضاء الليل فى القدس .


تقابلت على مائدة الإفطار مع الأستاذ طارق عبد الجابر وحاولت الاستفادة من أجندة مصادره فأخبرنى أن صديقاً لى من وكالة أنباء الشرق الأوسط فى الضفة الغربية عندما علم بحضورى كان سعيداً وبدأنا الاتصال بالقيادات الفلسطينية والاتفاق على لقاءات معهم فاتصلنا بصائب عريقات عضو المجلس التشريعى الفلسطينى فطلب منى الانتظار للغد لحضور لقاء الرئيس الفلسطينى ياسر عرفات مع جورج تينت واتفقت مع اللواء عبد الجليل الرجوب مدير الأمن الوقائى بالضفة على لقاء بمكتبه مع صلاة الجمعة و استكملت بالاتصال بقادة الفصائل الفلسطينية فأخبرنى مروان البرغوثى بأنهم سيقومون بمسيرة سلمية بعد الصلاة فأسرعت للحاق بهم بعد إنهاء لقائى مع الرجوب وأرسلت زميلى أشرف معهم من بدايتها ..وعندما وصلت كانت المسيرة قد تحولت الى انتفاضة وشاهدت معركة بين من يلقون حجارة من الفلسطينيين وطلقات البنادق الإسرائيلية لتفريق المتظاهرين وشاهدت سيارات الإسعاف تأتى لنقل الجرحى وتقابلت مع مصطفى البرغوثى فدعانى لزيارته فى مركز معلومات له وقدم لى معلومات وأفلاماً وثائقية عن الأحداث والأوضاع بالأراضى المحتلة ودعانى نقيب الصحفيين الفلسطينيين لطعام العشاء بمنزله ترحيباً لى وكانت فرصة لأتحدث مع الجميع على عشاء عمل واكتسب معارف جديدة كنت أجهلها بعد أن قضيت يومى الأول مع صديقى مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط فى الضفة .


ذعر وخوف الأطفال
فى يوم السبت استكملت مهمتى الصحفية وذهبت إلى مركز لعلاج الأطفال المصابين باضطرابات وأمراض نفسية من أصوات الانفجارات وهجمات المقاتلات الإسرائيلية من طراز «اف-16» التى أصابتهم بإعاقة دائمة وبتر فى الأطراف وذلك بعد حضورى لقاء الرئيس عرفات وتينت والمؤتمر الصحفى وحصولى على التصريحات الصحفية منهما ومن صائب عريقات.. وفى اليوم التالى «الأحد» سافرنا إلى قطاع غزة بعد أن زرت بيت العرب الذى يقدم دراساتٍ ونصائح للفلسطينيين وكيف منع تهويد القدس بعد طلب إسرائيل ذلك من الأمم المتحدة وطبقاً لعدد السكان فشل المخطط الإسرائيلى لأن عدد الفلسطينيين أصحاب الأرض أكبر وأخذت عدداً من الدراسات هدية وزرت مركز الاستعلامات وأوصلنا السائق المقدسى إلى معبر إيرز وأخذ سيارة أخرى تعمل داخل القطاع للدخول الى مدينة غزة التى تشبه منطقة شعبية بالقاهرة ودعانى زميلى مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط لتناول طعام الغذاء بمنزله وسط ترحيب من زوجته ..وبعد أن قام بعدد من الاتصالات التليفونية أخذنا للإقامة بفندق فلسطين والذى شاهدت والدموع فى عينى تدميره فى الاعتداءات الإسرائيلية فى عدوانهم الأخير وقبلها كنت قد التقيت قائد تنظيم فتح فى غزة والذى جاء الى المرجعية مع حراسة ليأخذنا لإجراء الحوار بمكان آخر وأخبرنى أن صاروخاً من طائرة هليوكوبتر أطلق على كرسيه بمكتبه وسمعت عن اغتيالات لقوات الاحتلال لأى قيادة او عضو بالفصائل الفلسطينية فى أى مكان وذلك غير سياسة الهدم والتدمير وتحدثنا عن الأوضاع المرة بالقطاع ثم ذهبت لمبنى المخابرات الفلسطينية بالقرب من مستوطنة جباليا ذات البيوت الفقيرة جداً والمكتظة بالرجال والنساء والأطفال ودائماً يعتبرها الإسرائيليون هدفاً ثم ذهبت الى القنصلية المصرية وقضيت سهرة بمركز الشباب على شاطئ غزة القريب من البحر المتوسط مع الصحفيين الفلسطينيين والتقيت مع بعض أعضاء الفصائل واستمعت لحكايات وبطولات وما يفعله المحتل معهم منذ سنوات وتعمده إذلالهم فى الدواء والعلاج والطعام والوقود وكل أساسيات الحياة وأن القطاع يعيش فيه أكثر من ألفى نسمة يعيشون على مساعدات ومدارس الأنروا.


طبرية وقبة الصخرة
فى اليوم التالى «الإثنين» التقيت بوزير الصحة الفلسطينى ومدير الأمن الوقائى فى القطاع وقمت بجولة من حدودنا حتى مدينة غزة وهى عبارة عن 36 كيلو متراً وشاهدت المستوطنات الإسرائيلية ثم ذهبت الى تل أبيب للقاء السفير المصرى قبل صعودى الى جبل الجليل ولقاء عرب 48 والشاعر والأديب سميح القاسم الذى دار بيننا حوار عن حياته قبل أن يهدينى كتاباً لقصائده الشعرية وقال لى وهو يودعنى: إن مصر تملك القوة الناعمة التى تسيطر بها على الشرق الأوسط كله ولا يستطيع أحد أن ينافسها.. وتجولت فى شوارع الفلسطينيين أبناء عرب 48 ورحب بى سكانها وأصحاب المحال وطلبت المرور على حيفا وعكا فى طريق عودتى إلى القدس وتوقفنا بجوار بحيرة طبرية القريبة من هضبة الجولان السورية وتخيلت الحكايات التى كان يتضمنها فيلم الناصر صلاح الدين ..واستكملت طريقى على الحدود مع الأردن ووصلنا الى القدس وجلست فى غرفتى لأكتب الرسائل التى قمت بإرسالها إلى الأخبار .. وكان زميلى أشرف شحاتة نعم الرفيق ونزلنا إلى مقهى بلدى فى القدس الشرقية وشرح لى مرافقى المشهد الذى أراه من فوق تبة ترى منها مدينة القدس .


كان ختام مهمتى الصحفية فى اليوم التالى بدخولى المسجد الأقصى والتجول حول أسواره وتناول طعام الإفطار بمطعم فول وطعمية بسور المسجد والسير خطوات حتى كنيسة القيامة وأصابنى أحدهم بغصة عندما أشار الى احد البيوت وقال: إن اريل شارون كان يقيم به وتجولت بالمسجد وصليت العصر فى قبة الصخرة وركعتين بالمسجد وأسفل قبة الصخرة ..تركت أرض فلسطين المحتلة بعد ان تعايشت مع أهلها الطيبين وشاهدت جرائم المحتل واستمعت لحكايات تدمى لها العيون مع دعواتى أن يحفط الله سكان فلسطين وإقامة دولتهم التى تضم الضفة الغربية وقطاع غزة وعاصمتها القدس.


سياسة الأرض المحروقة
كل شىء فى فلسطين المحتلة هدف للقتل والتدمير حتى الطير والحيوان فبعد ان تركت أرضها الطيبة وجدت بين أوراقى كتيباً حصلت عليه من أحد مراكز الدراسات عن وجود 48 محمية طبيعية بأرض فلسطين منها: عين الفشخة مأوى للطيور المهاجرة حيث ينبت بها البوص والعوجا شمال أريحا وتصلها الطيور المهاجرة والقلط وفارة والفوار بالقرب من القدس يعيش فيها الوبر الصخرى والنيص والغزال الجبلي والذئب والضبع ووادي القف وبه أشجار السرو والصنوبر ومأوى للطيور المهاجرة والمقيمة وبها عيون مائية ضعيفة وبرك سليمان ومكونه من 3 برك منحوتة في الصخر ووادى خريطون الذى سكنه الإنسان الأول وبها مغارة محفورة في الجبل كان يحتمى فيها المسيحيون الأوائل من اضطهاد الرومان وعين قينيا مأوى للطيور المهاجرة وبها حيوان ابن آوى والخنزير البرى وشقائق النعمان والسمفتوم الفلسطينى والجعدة ووادى الباذان وبه ينابيع وعيون مخفية بين الصخور ويعيش به الثعلب والنيص والأرنب البرى وأشجار الحور والكينيا والصفصاف ونباتات الصعتر والميرمية والبوص و الخطمية .. وفى جنين أم التوت وأم الريحان وشوباش وفحمة وبطوباس تياسير وجبل طمون وبطولكرم الشيخ التبان و بئر حجة وفى نابلس وادي الباذان وجبل عزموط وزعترة والشيخ زيد وعين دارة ووادى الدلب ودير عمار والهاشمي وعين قينييا ووادي القلط ومرج الزعر ورب القدس وعيون جدى وفشخة و الغوير وأم الخير وخشم الدرج وجبل جرزيم الذى يصل ارتفاعه الى 881 مترا ويُطلق عليه جبل البركة وتسكنه الطائفة السامرية وعثر بسبسطية على بقايا مدينة سامرة القديمة وكاتدرائية يوحنا المعمدان وجامع سيدنا يحيى ومقابر يونانية ومسرح ..وفى أم الريحان غابات كثيفة وأشجار كبيرة الحجم ومعمرة والضبع والذئب والنسناس وتمتاز حمامات وادي المالح بالمياه المعدنية وبها شجيرات الرتم والسريس والخروب ونشاهد فى وادى غزة طيور السلوى والغر ودجاجة الماء ومالك الحزين وقد تعرضت المحميات الطبيعية للاعتداءات والغطرسة الإسرائيلية والانفجارات التى استهدفت الطيور والحيوانات مع البشر بسياسة الأرض المحروقة .. لك الله يا فلسطين.