يوميات الأخبار

أكتوبر .. والمآذن العالية

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

دفعت بعض الجنود للجلوس على حافة القناة يمصون القصب، أو يفعلون أى شيء لا علاقة له بالحرب لإيهام العدو بأن الحرب لن تشتعل

يوليو 71 وقف الفريق أول محمد أحمد صادق، القائد العام للقوات المسلحة ووزير الحربية، مرحباً بالفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية قائلاً: أهلاً يا سيادة الفريق. تفضل. جلس. كله يقظة. بادره الفريق أول صادق: أرجو أن تكون جاهزاً لشرح موقف القوات، ومدى استعدادها للحرب.
- جاهز يا افندم. - تفضل. أنا أسمع. - اسمح لى سيادتك قبل أى شىء، أن أستعرض موقف القوات المسلحة بالتفصيل. أولاً: القوات الجوية، ضعيفة جداً إذا قورنت بقوات العدو الجوية. لا تستطيع أن تقدم أى غطاء جوى لقواتنا البرية إذا قامت هذه القوات بالهجوم عبر أراضى سيناء المكشوفة، كما أنها لا تستطيع أن توجه ضربة جوية مركزة ذات تأثير على الأهداف المهمة فى عمق العدو.
- وقوات الدفاع الجوى؟ - عندنا دفاع جوى لا بأس به، يعتمد أساساً على الصواريخ سام، لكن للأسف هذه الصواريخ دفاعية وليست هجومية. - كلام يدعو لعدم التفاؤل. وموقف بقية القوات؟ - عندنا تفوق فى المدفعية بالنسبة للعدو. لكن العدو عنده خط بارليف يحتمى به. وعندنا أيضاً تفوق فى القوات البحرية.
- طبعاً موقفنا الخاص بالقوات الجوية السبب فيه الاتحاد السوفييتي، ونقص الأسلحة الهجومية مسؤولية الاتحاد السوفييتي. بصراحة أنا لا أفهم موقف الاتحاد السوفييتي. المفروض أنه حليف. لكنه لا يريد لنا ان نكون على قدم المساواة مع إسرائيل. أمريكا تزود إسرائيل بأحدث الأسلحة بحيث تكون متفوقة علينا، أما الاتحاد السوفييتى فيقدم لنا الأسلحة الدفاعية فقط، ويقدمها بالقطارة.
- المهم، فى ضوء هذا الموقف، أنا أفكر فى وضع خطة للحرب تكون مناسبة لإمكاناتنا. بمعنى أن يكون هدفنا عبور القناة، والتغلب على خط بارليف، والتقدم فى سيناء من عشرة كيلومترات إلى إثنى عشر كيلو متراً فقط. بحيث نكسر الجمود الحالي، ونعطى فرصة للعمل السياسي.
- هذا كلام غير مقنع. هدفنا لا بد أن يكون السيطرة على سيناء كاملة، وعلى قطاع غزة أيضاً. هذه هى حدود 4 يونيو.
- لو كان هذا هدفنا فمعنى ذلك أن علينا أن ننتظر سنوات أخرى، لأننا تنقصنا الأسلحة اللازمة، حتى لو وافق الاتحاد السوفييتى على أن يقدم لنا الأسلحة المطلوبة فسنكون بحاجة لعدة سنوات للتدريب عليها. وأظن أن الشعب لن يحتمل الانتظار طويلاً.
- طيب. لنعترف بأن لدينا وجهتى نظر. وبناءً عليه لنضع خطتين، واحدة هدفها التحرير الكامل، والأخرى هدفها تحرير عشرة أو إثنى عشر كيلومتراً. ما رأيك؟
- كلام عظيم. إسمح لى سيادتك بملحوظة مهمة، خطة التحرير الشامل سنشرك الخبراء السوفييت فى وضعها، لكى يعرفوا الأسلحة التى تنقصنا. أما الخطة الأخرى فسوف نقوم بإعدادها سراً دون أن يعرف السوفييت أى شيء عنها.
- موافق.
من هنا كانت البداية.
- الخطة الشاملة لتحرير سيناء كلها وقطاع غزة صار اسمها جرانيت 2.
- الخطة الثانية أطلق عليها اسم «المآذن العالية».

وقد وافق الرئيس السادات على وجود خطتين، على أن يكون التركيز على خطة المآذن العالية، أى أن نبدأ الحرب فى حدود إمكاناتنا، ونضع أقدامنا فى سيناء، ونجبر الجميع على الالتفات لما يحدث على الأرض. بعد فترة وجيزة أقال السادات الفريق أول صادق من منصبه، لأنه يهاجم السوفييت. وجاء أحمد إسماعيل وزيراً للحربية، وكان بينه وبين الرئيس السادات إتفاق فى الهدف من الحرب. وصارت خطة «المآذن العالية» هى أساس الاستعداد.

كراسة الجمسى
فى أبريل 1973 قام اللواء الجمسي، رئيس عمليات القوات المسلحة، باستدعاء مجموعة من الضباط الثقات. قال لهم بصوته الهادىء: جمعتكم لأكلفكم بدراسة أنسب موعد للهجوم لو أردنا شن الحرب ضد إسرائيل. المسألة ليست سهلة. لا أريد موعداً واحداً. أريد بدائل يمكن لصانع القرار أن يختار منها. وأريد أن يقوم الاختيار على دراسة أيام المناسبات الدينية والاجتماعية فى إسرائيل، وموعد الانتخابات القادمة، ودراسة التيارات فى القناة، والمد والجزر، وساعات الليل والنهار فى يوم العبور. باختصار أريد دراسة شاملة ودقيقة. وأرجو ألا تتأخر نتائج الدراسة.
بدأت خلية نحل تعمل فى هيئة العمليات. درسوا كل شىء. ووضع الجمسى تحت يدى القيادة خيارات متعددة حين تقرر الحرب.. عرض أحمد إسماعيل وزير الحربية الدراسة المكتوبة فى الكشكول على الرئيس السادات. إنبهر بها. إشتهرت بكشكول الجمسى بعد ذلك. واختارت القيادة السادس من أكتوبر موعداً لتنفيذ خطة المآذن العالية.

لقاء فى برج العرب
مساء يوم 21 سبتمبر 1973 كان محمد حسنين هيكل على موعد من الرئيس السادات فى استراحة برج العرب. لم يكن الرئيس فى الاستراحة، بل كان فى الكابينة الموجودة على الشاطيء. إستقبل الرئيس السادات هيكل. نظر للأفق فى نوبة تأمل وشرود ثم قال وكأنه يخاطب نفسه: القرار بالنسبة لكم جميعاً تعامل مع الأفكار والتقديرات والاحتمالات، أما بالنسبة لى فإن القرار تعامل مع الحياة أو الموت.. ثم التفت لهيكل وقال: ليس من حق أحد أن يلومنى مهما كانت النتائج. قرار الحرب هو ما كانت البلد تريده، وما لم يكن منه على أى حال مفر. ولست أعرف كيف سيأخذ الناس حجم خسائرهم فى القتال، لكن أحداً لا يحق له أن يتوجه إليّ بلوم أو نقد. كان هذا ما فرضته الظروف ويفرضه الواجب، وقد أديته، أما ما يحدث بعد ذلك.. بعد فترة صمت ثقيلة إلتفت إلى هيكل. قال له: أحمد (يقصد أحمد إسماعيل) يطلب توجيهاً سياسياً مكتوباً يتضمن الأمر بالبدء فى القتال ويحدد هدف العمليات.

ناقش الرئيس السادات هيكل الذى سيكتب التوجيه فى بعض التفاصيل، ثم طلب منه كتابة التوجيه. وحين أرسل السادات التكليف للفريق أول أحمد إسماعيل رأى أحمد إسماعيل أن التوجيه لا يؤدى الغرض المطلوب، فطلب من الرئيس السادات تعديله، لكى ينص على الأمر الواضح بكسر وقف إطلاق النار، لتغطية المسؤولية السياسية بطريقة قاطعة تحمل صيغة الأمر المباشر، ولو فى سطر واحد. وجاء التوجيه، أو الأمر كالتالي:

توجيه استراتيجي
من رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة
إلى الفريق أول أحمد إسماعيل علي وزير الحربية والقائد العام للقوات المسلحة

1- بناءً على التوجيه السياسى العسكرى الصادر لكم منى فى أول أكتوبر 1973، وبناءً على الظروف المحيطة بالموقف السياسى والاستراتيجي: قررت تكليف القوات المسلحة بتنفيذ المهام الآتية:
أ‌- إزالة الجمود العسكرى الحالى بكسر وقف إطلاق النار اعتباراً من يوم 6 أكتوبر 1973.
ب‌- تكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والأسلحة والمعدات.
ت‌- العمل على تحرير الأرض المحتلة على مراحل متتالية حسب نمو وتطور إمكانيات وقدرات القوات المسلحة.
2- تنفذ هذه المهام بواسطة القوات المسلحة المصرية منفردة أو بالتعاون مع القوات المسلحة السورية.
9 رمضان 1393
5 أكتوبر 1973 أنور السادات رئيس الجمهورية

خطة الخداع
بدأت خطة الخداع المصرية قبل الحرب بسنوات، فقد أجرت القوات المسلحة المصرية أكثر من مشروع تدريبى فى هذا التوقيت، وكانت تستدعى الاحتياط، وتحرك القوات نحو الجبهة، ثم ينتهى المشروع بسلام، وتعود القوات إلى مواقعها. هذا العام بدأ المشروع لثالث مرة، وحين أحست إسرائيل بالقلق ذهب ديان لزيارة الجبهة، ثم عاد ليؤكد أنه مجرد مشروع تدريبي.. وأذكر أنى فى هذا الوقت كنت مجنداً بإدارة الوقود، وبالفعل تم استدعاء الاحتياطي، ومنعت الإجازات، لكنهم قبل الحرب مباشرة بدأوا تسريح الاحتياط، وفتحوا الإجازات، وحين وقعت الحرب كنت فى إجازة، لكنى سلمت نفسى بمجرد سماع نبأ العبور فى الإذاعة المصرية.

هذا لم يكن كل شىء. ففى عام 1970 أعلن السادات أن هذا عام الحسم ولم يتم أى شيء مما أعطى إسرائيل شعوراً بأن السادات يتكلم فقط.. بل إنها دفعت بعض الجنود للجلوس على حافة القناة يمصون القصب، أو يفعلون أى شيء لا علاقة له بالحرب لإيهام العدو بأن الحرب لن تشتعل.

باختصار كانت هناك خطة كاملة للخداع الاستراتيجي، قام الجميع بتنفيذها بمنتهى الدقة.

بدأت الملحمة
جلس الرقيب مؤهلات رجب فى ملجأه ليشرب شاياً بعد أن تناول غداءه. مدد قدميه. تمطى بجسده. كان التدريب اليوم شاقاً فى هذا المشروع الذى تحركت القوات المسلحة إلى شاطيء القناة لتتدرب عليه كأنه عبور حقيقي. صب الشاى فى الكوب. قبل أن يرفع الكوب إلى فمه سمع أزيز طائرات شديداً. ثم سمع صياحاً جماعياً مدوياً فى الخارج: الله أكبر. الله أكبر.
خرج من الملجأ ليرى ما الخبر. شاهد أسراب طائرات مصرية من كل الأنواع تعبر القناة فى اتجاه الشرق. لم يصدق نفسه. لقد تحول المشروع التدريبى إلى حرب حقيقية. صار الحلم حقيقة. صاح مع الجنود من كل قلبه: الله أكبر. الله أكبر.