الروائية الفلسطينية نيروز قرموط تتحدث لـ «أخبار الأدب»: غزة تتوسل الحرية وتبحث عن عطرها الخاص

الروائية الفلسطينية نيروز قرموط
الروائية الفلسطينية نيروز قرموط

نيروز قرموط، أديبة فلسطينيّة، صوت أدبى من غزة، واثق وجرىء، درست الصّيدلة وحصلت على بكالوريوس فى الاقتصاد وإدارة الأعمال من جامعة الأزهر فى غزّة، عملت فى وزارة شئون المرأة.

حازت عدّة جوائز فلسطينيّة وعالميّة، أبرزها: جائزة القلم البريطانى English Pen الرفيعة للأعمال الأدبية المترجمة للغة الإنجليزيّة عام 2017، وتصدّرت مجموعتُها القصصيّة «عباءة البحر وقصص الجديلة» قائمة الكتب الأكثر مبيعًا فى «مهرجان إدنبرة الدّولى للكتاب» فى اسكتلندا عام 2019، وعندما قررت أن تطبع أعمالها باللغة العربية اختارت القاهرة لتكون المنصة التى تطلق منها إبداعها، وعن ذلك تقول: القاهرة المشهد السينمائى الأول فى العالم العربى، اللغة العربية تنحت حروفها على حجارة الأهرام المتوارية عن حريق العالم.

 أصدرت كتابيها: «عباءة البحر»، و»عبور» عن دار نشر «ميريت»ودار «راية» للنشر، وعن أجواء وكواليس كتابة قصتها «عباءة البحر» التى كتبتها عن غزة تقول نيروز: كانت غزة تخرج من الركام، وكلما أُعِيد بناء طابق فى العمارة المقابلة لنافذتى، وبينما أشاهد سواعد العمال فجر كل صباح جديد تبنى الحجارة، كنت أضع الحجر الأول فى قصة قصيرة جديدة ضمن المجموعة، وأطلقها لتنمو، وكلما مشيت فجرا على شاطئ غزة، لأستيقظ مع عمال النظافة يكنسون عتم الليل وقشور المارة من الأرصفة، وصيادى البحر يفرشون الشباك، والأكشاك تصنع قهوتها، والرائحة فى الفحم تغلف عرانيس الذرة لمن استيقظ مبكرا على غفلة من نوم الجميع، حينها سبكت مخيلتى والتقطت أفكارى، استمتعت بضياء الشمس على موج البحر، غرقت أقدامى برمال الشاطئ المبللة، وغزلت لحنى، بعد حرب 2014 الحرب الأطول على القطاع الصغير فى مساحته والكبير فى صمود إنسانه.

التقيت بالروائية الفلسطينية نيروز قرموط، وكان معها هذا الحوار..

 نتحدث عن البدايات، كيف اكتشفت نيروز موهبتها وعشقها للكتابة الأدبية؟ 

كانت طفولتى تلتقط الحياة كرحلة أدبية مصورة، تنعش فيها الإحساس بالفنون بالموسيقى وبالألوان وإيقاع الكلمات، والقطعة المفقودة فى كل لوحة من لوحات الحياة، ذلك الإنسان الذى لا أعرفه لكنى ألتقط إدراكه وإحساسه بالمحيط والأشياء، اللحن المعمق فى إعطاء المكنونات إيقاع الوجود والتفاعل وكونها تلك الجدلية بين المحسوس واللامحسوس، وصولاً إلى الحركة التى تغزل مرونة المشهد فى كونه مشهداً للحياة اليومية وبحثاً عن حيويتها.

التناقضات تعمق النظرة للأفكار وكل ما يحيط بنا، هنا كنت أجد تلك المساحة فى الإبداع، الإحساس كما أسلفت بداية كل شيء ومن ثم ذلك التوازن بين داخلك وخارجك فى حل العقدة بدفقة فنية لا تنتظرها لكنها تأتى وحدها، لتحرك الخيوط فى انسيابية الشعر والمسرحية والمقالات الفكرية والسياسية والأدبية، هنا كانت البداية ونسج الفلسفة فى الرؤيا والنسق والأسلوب الكتابى فى السرد والعرض، توتر المشهد العام يخلق تلك الروية والهدوء فى رسم كلماتك ورصف لغة خاصة تنظر إلى تفاصيل ناعمة تتحدث إليك فى لحظة فاصلة.

•فى «عباءة البحر»، ملامسة لمكنونات الروح الإنسانية، وسعيها للرقى والتطور رغم قسوة الظروف، ومحاولة للتخلص من القيود، والبحث عن أمان فارقته منذ زمن، هل ذلك انعكاس لتناقضات القضية الفلسطينية أم ثورة على محتل غاصب شرس؟

الروح الإنسانية تحلّق مهما كبلتها القيود والتبعيات، الإنسان هو كائن حر يزينه العقل ونعمة الإحساس، الطبيعة تزودك بأنظمة التحدى والمواجهة دون أن تشعر، نسمة ناعمة على خدك تحرك بك إحساساً فى حركة امرأة كبيرة بالسن، وقادرة على قطع الطريق لوحدها بعكاز قد تشعر بغربته ومغادرته للحياة فى لحظة ما، ابتسامة طفلة ولمعان ضوء الشمس فى خصلاتها، يجعلك تلتصق وضياء الحياة فى لحظة حرب غافلة، تسرق تلك الطمأنينة فى روحك وجسدك، الثورة هى مرآة الحياة، والتى ترفض كل شكل من أشكال الاحتلال والاغتصاب والإحلال، كانت غزة تتوسل الحرية فى عباءة البحر، وتبحث عن عطرها الخاص فى هندامها وبناء طرقاتها ومبانيها، تحاول أن تجذف بساقيها بعد أن شفت العباءة أنوثتها على الشاطئ، إنها تكافح وتقاوم كل العادات والتقاليد البالية والمفهوم الخاطئ للدين، تتحدى سطوة الاحتلال فى أدق تفاصيل حياتها، ذلك البحر الذى تزبد أمواجه ضوء الشمس إلى حبيبات رمله الذهبية، حتى كان ذلك السطح وكل شيء يكمن به.

 فى «الضفيرة الطويلة» قالت الأم لابنتها «قمر»: «لا يوجد ترحيب بما تقومين به فى هذا المجتمع، لم يعد والدك قادرا على تحمل نقد الجميع من حوله، بمن فيهم أقاربك»، هكذا فى معظم كتابات نيروز، تسليط الضوء على قضايا المرأة الفلسطينية بعين نسوية شرسة، تعكس القيود والعنصرية المفروضة بعادات وتقاليد متسلطة، وأيضا ضد محتل غاشم، من خلال تجربة عميقة، كيف لكِ ذلك؟

كلاجئة فلسطينية تحركت فى عدة بيئات بعمر مبكر، ما بين الداخل والخارج، رفدتنى هذه التجربة بعين المقارنة الحثيثة بين عوالم الاغتراب التى صنعت تلك المجتمعات الصغيرة المتنوعة، لمجتمع واحد أصيل فى قضية المواجهة، وهجين فى أدواتها، عندما تأخذ صبغته من المجتمعات المضيفة لغربته، وتتلوى خيوطه بأسلحة متباينة ما بين صفاتها المعروفة من قوة وخوف من أجل الاندماج وتحدى الظرف المعاش، مما ينسج سجادة دقيقة فى نهج العادات والقيم الاجتماعية المتبعة، وصولا لبناء قواعد فكرية تُنتهج كنسق تفاعل اجتماعى عام، فى هذا المضمار تتضح خصائل الخوف فى اتباع مفاهيم حان وقت تفكيكها إلى الأسس التى قولبت تشبثها فى معرفات لقيم هى متحركة، لكننا نوقف فى عقولنا عقارب الساعة التى تحرك مسلكيات تطورها.

إذن الأفكار حبيسة الذهن الشارد إلى مواجهة محتل مُؤجج بكل قواعد الاحتراب ممنهجة الانطلاق والتدمير، كان لها أن تحرر، وتواجه المعنى فى حرمان طفولة لا تعرف اللعب، وامرأة تفتقد أضعف وسائل الحركة الحرة بدءاً من العائلة إلى المجتمع إلى حواجز الاحتلال وقوانينه فى تقطيع أوصال الأرض الواحدة، ومنهجته فى لغة الانفصال الجغرافية والتى تصنع كنتونات فكرية غير متشابهة، وتضعف لغات الاندماج العصرى والمحلي. 

عن شخصى تحركت فى بيئات دراسية بدءاً من المدرسة إلى الجامعة بين علوم مختلفة، وكل منها حملت طباعاً خاصة معلميها ما بين التزمت والتحجر والتقبل فى جانب آخر، مما عقد الوصول إلى العلوم بشكلٍ بسيط لا يحتاج كل هذا التعقيد، هنا نحتاج مجتمعاً خالياً من كل رواسب الأفكار والتبعيات التى لا تؤسس ولا تضع البنية التى تحمل مجتمعاً حراً ومتصلاً، اتصال الهوية الداخلية بأوجهها المختلفة.

عملى ما بين تخصصات متنوعة انطلاقاً من البحث عن العدالة وتكافؤ الفرص فى وزارة شئون المرأة، ودراسة العلاقات الجندرية بحساسيتها وتوازناتها، وبناء إعلامها ورصد شكاوى العنف فى مضمارها، وبناء الاتصال بين مؤسساتها الأهلية والحكومية، انتقالاً إلى الصحافة وكتابة المقالات التحليلية فى السياسة والاجتماع، وأخرى أدبية وفلسفية، والاحتفاظ لنفسى بأبياتٍ شعرية ثم كتابة سيناريوهاتٍ تعالج مشاكل المرأة مع مؤسسات نسوية، وإسقاط مخيلتى الفنية بإعادة صياغة كل تلك العلاقات الشائكة وغير المتوازنة، كانت قراءة تفصيلية تحيط بتفاصيل الشأن العام دون توقف يُذكر وعلى مدار أعوامٍ متتالية، قراءة لا تفتعل توقيتاً بقدر ما هو شغف الوصول إلى تغيير ممكن، الفن غالباً ما يتفوق على المحيط، ويخلق تلك الأدوات غير المنظورة.

فى «الضفيرة الطويلة» عبرت الطفلة رجعية أستاذها، والتصقت بذاتها المؤثرة فى كلمة ولحن ولوحة راقصة، الذات أشد مما تفتقده الهوية العربية التى نحتاج لإعادة تعريف عبورها، بدءاً من بناء ذاتها المحلية بكل مكونات الثقافة الأصيلة فى تاريخها والمتجددة فى إبداعها.

•ما سر اختلاف الكتابة فى أعمالك، تتميز «عباءة البحر وقصص الجديلة» بالبساطة والرشاقة وعمق المعنى، وفى «عبور» يسيطر الغموض من خلال 3 «نوفيلات» تحمل كل منها طريقة كتابة غير الأخرى، تدمج الخيالى بالتوثيقى بالفلسفى؟

-فى عباءة البحر وقصص الجديلة، اتبعت أسلوباً بسيطاً وحديثاً فى عرض جنس أدبى هو القصة القصيرة، هذا النوع الأدبى هو الأقدر والأسرع فى الوصول إلى الفئات المختلفة من القراء، ويأخذ سريعاً من لغة العصر وحركتها وإيماءتها، البساطة والمرونة هى أصل الهوية الحديثة، ولربما الحداثة كانت فى القدم ولم نكن قد اكتشفناها بعد، يلين القلم مع التجربة، فى عبور المتوالية من ثلاث نوفيلات، اتبعت ثلاثة أساليب مختلفة فى أنواع الكتابة «كيف تستعيد النساء أجسادهن بعد الحرب!» النسق السردى والفلسفى والشعرى والذى يعرض نوعاً جديداً من كتابة الغموض والقصة البوليسية، جمحت اللغة فى فحواها وسمحت لها بأن تأخذنى إلى آفاق تعبيرها، حتى أمتلك النص ثلاثة فصول مختلفة من الكتابة، لم تستهدف القصة قارئاً لا يمتلك إلا وقتاً قصيراً للقراء، أردت حثه إلى التعمق والنهوض به إلى مستوى آخر من التركيز وربط الأحداث، منذ بدايتى بالكتابة أشرك القارئ فى عملية الكتابة واكتشافه لفحوى القصة، فى «ألفريدو روج» العرض كان يختلف عما كان فى الأجساد، كان سلساً ويحمل سخرية وواقعية ورمزية مختلفة، ولعبة جديدة فى تأخير وتقديم الأحداث كما كل قصصى، أما عن «النرد» فكان أدب الرحلات والسريالية والواقعية مرة أخرى فى آن واحد، أنتهج أساليب مختلفة فى الكتابة وأستمتع فى ذلك، أرسم بورتريهات بقلم يصنع لغته بنفسه، وهنا أحب أن أجدد نفسى.

نيروز.. صوت أدبى من قطاع غزة، واثق وجريء، وضح ذلك فى «أضواء غزة»، فى طرح ومعالجة القضايا الشائكة والمعقدة مثل الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية، تحليل المجتمع الفلسطينى بنظرة ثاقبة، والمطالبة أولاً بالسلام مع الذات، ما مدى تحقق ذلك؟

كانت «سلام» اسم الفتاة فى أضواء غزة، من لا تمتلك هوية جنسية واضحة، وتخفى عائلتها ذلك عن العوام. مرة أخرى الانفصال فى هوية الذات، كما هو الانفصال فى هوية المجتمع ما بين الايديولوجيا والمواطنة والانتماء إلى الهوية، حتى انقسم الوطن، ولم تستطع مدينة صغيرة أن تفصح عن الهوية الجندرية لإنسان يحتاج إلى عملية فى تصحيح جنسه. امتلكت عضوين فى آنٍ واحد لسنوات طويلة وعانت سراً للتمرد مرة، وحجب نفسها مرة أخرى.

«رجل عجوز ينظر إلى أصابعه وهو يمسح البرتقالة: أيها الشاب، أسرع فى مسحها، هنالك ما هو أهم من مسح هذا البرتقال، لا تنتبه إلى هذه التفاصيل، أبدأ فى مناداة الناس، عليك البيع الآن».

غالباً ما تلتفت الإناث إلى أدق التفاصيل كتفاصيل قصة قصيرة، لكنها فى النهاية اختارت ليس مسح البرتقال فقط بل بيعه، ونادت سلام المارة لبيع البرتقال والموز.

السلام مع الذات، ووضوح الإنسان مع نفسه وطرد آفاته ومخاوفه للخارج، بداية المواجهة الحرة مع أى احتلاٍل فكرىٍ أو نفسى أو اقتطاع للأرض والهواء والمساحة. 

المزج الحى لمكونات الهوية الثقافية المتراكمة ما بين الاعتقاد والفكر والدين والقراءة القانونية لنسق الاندماج البنيوى لاختلاف الانسان، وعبور الوطنية لمدنية إنسان يتحضر فى غابة من التكنولوجيا، تزرع مساحاتٍ خضراء فى ناحية، وتشن حروباً تصنع صحراواتٍ قاحلة فى ناحية أخرى، هو تحدى القرن الجديد. نزاع مجموعات فصائلية فى ظل تغير مناخى، شح فى المياه، زحف فى الموارد الطبيعية والبشرية، تنازع عالمى للقوى، طغيان القطاع الخدماتى على القطاع الصناعى، فى معازل إنسانية استهلاكية مُحاصرة، تشبه قطاع غزة، هو عنوان الرسم الجديد للاحتياجات التى تفوق التقدير السياسى للموقف الاستراتيجى لكيفية بقاء الإنسان على أرضه. 

هنا تطرح الآنية نفسها سيدة الموقف على عدم الاستقرار الذى يعيشه الفلسطينى فى أدق تفاصيل حياته ومحاولاته لبناء أهداف غير محققة النهاية المرجوة.

مما يطرح سياسات صمودٍ يطرحها الواقع المعاش، ويجتزئ السياسة العامة فى سياسات محلية منفصلة ومتوازية على أرض فلسطين المحتلة، هذا السيناريو هو مرشح لإعادة صياغة مختلف الأرض العربية المجاورة للصراع الفلسطينى- الاسرائيلى القائم.

النزاع الفصائلى الفلسطينى انعكس ولربما كان فى حالة انزياح مستمر لمجمل المنطقة الناطقة باللغة العربية، هنا تكمن قوة الأدب فى التحقق من آلية اللغة الملائمة لحل الصراعات المختلفة. لذا امتلاك ميكروسكوب ضوئى فى تشريح هذه الحالة المعقدة والمتشابكة ينشأ من أبعاد عدة بدايتها كيف هى الرؤية لحل يطرح عودة اللاجئين الفلسطينيين بحيواتهم المغايرة وبمجتمع محلى فلسطينى يستمر بالتغير تحت وطأة الاحتلال، وبالإطار العريض الذى يقضى برؤية واضحة متفق عليها فى الوصول إلى تقرير المصير تحت سياسة الأمر الواقع التى يمارسها الاحتلال وينفذ حلولاً أحادية الجانب ويرصد رد فعل فلسطيناً موائماً أو غير موائم فى آن واحد لخطواته على الأرض، فى النهاية هنالك رصد لتطور أداوت الفلسطينى فى الصمود والمواجهة ما بين المقاومة الشعبية التى تتسع لكافة الأدوات بتوقيتات ملائمة، ترصدها حالة الشارع المرافقة، وطبيعة الطبقة والفئة التى ينتجها المجتمع بحالات اجتماعية ونظرة ثقافية والتى تحمل على كاهلها طبيعة الاشتباك. مازال المشهد يرتفع ويهبط بمتغيراته إلى مستقبل نتكهن الكثير منه. دعنا نرى.

«كيف تستعيد النساء أجسادهن بعد الحرب»، قصة فى المتوالية القصصية «عبور»، تروى معاناة النساء والمهمشين بين ركام الحرب، رسالة واضحة للعالم ربما استيقظ ضميره، بمن تأثرتِ وكيف تصل رسالتك للجميع؟

تأثرت بكل النساء اللاتى لا يجدن طريقة للتواصل مع أجسادهن، وبكل امرأة تفتقد مرونة تحتاجها فى جسدها، تقطع هذه الصلة بتكبيلهن بمختلف أنواع القيود المجتمعية والسياسية والاقتصادية، والاستغراق فى تعنيفهن النفسى والمعنوى من أصغر الدوائر المحيطة بهن إلى أوسعها، والإطار الأشمل لصناعة هذا الضغط والتعنيف هو الاحتلال المستمر بمقدراتها، والذى يتقن إيقاف تطورها وتحريرها، عندما يزرع الخوف فى داخلها وداخل من حولها، سواء باتباع سياساتٍ يوميةٍ مجحفة تعيق حركتها واندماجها، أو باستخدام آلة الحرب العنيفة والتى تثقل عليها وعلى عائلتها الكبيرة والصغيرة، لتتحمل عناء فوق عناء، وتستمر فى إبداع ابتسامتها لكن ذلك لا ينفى الظلم الذى تحاول التفوق عليه وإخفاء آثاره عنها، تلك الأعمال البسيطة التى تقوم بها الفئة الشفافة من المجتمع نساء ورجالاً، العمل فى التنظيف، تصفيف الشعر، النوادى الرياضية وغيرها من الأعمال التى تبحث طبيعة الجمال فى التفاصيل، بحثاً عن تغير ممكن فى الآخر، الذى يعكس تمنيات كل من هؤلاء الكادحين فى إيجاد متسعٍ من الوقت والمال ليظهروا بذات الجمال، هنا تطغى روح البحث لتعرض الصورة وتتقن فن الرقص على أوتار الألم والفقدان، عندما تبحث فتاة مسافرة  الألحان فى مقطوعتها الموسيقية.

«الزنابق البيضاء» نتاج للقسوة والوحشية فى مواجهة الزهور البشرية، وانعكاس  لمدى تأثركِ بشاعر فلسطين الكبير محمود درويش وقصيدته «الجندى الذى يحلم بالزنابق البيضاء»، احكِ تجربتك مع محمود درويش؟

يقول محمود درويش لإدوارد سعيد فى رائعته «طباق»: «والهوية قُلْتُ، قال دفاعٌ عن الذات، إنَّ الهوية بنتُ الولادة، لكنها فى النهاية إبداعُ صاحبها، لا وراثة ماضٍ»

أشعر أن ينبوعاً من اللغة يجمعنى مع فحوى درويش، «اخرجوا من أرضنا.. من برنا.. من بحرنا.. من قمحنا.. من ملحنا.. من جرحنا.. من كل شيء.. واخرجوا من مفردات الذاكرة» مفردات الطفولة الملّحة على العودة، اللحن الذى يجمعنا معاً للاستماع إلى لغزية حياة تتقدم إلينا، ونسير إليها بأوتار الموسيقى الناشئة فى ابتكار المعنى وغرفِه من صناديق الاختباء البعيدة، كانت الزهرة دلالتين فى حالتين ومكانين وزمانين، كانت هدية فى لحظة سلام، وإشارة تستدعى إطلاق صاروخ فى لحظة حرب، بتلاتها تلطخت بالدماء، بعدما كانت فى السابق استدعاء لفنجان قهوة وكرواسون فى احتفال الأمومة، » قال لي: إن الوطن/ أن أحتسى قهوة أمى / أن أعود آمنا مع المساء»، أبيات أخرى مبعثرة، يقول بسرعة أكبر: «وسيلتى للحب بندقية / لو يكبر الحمام فى وزارة الدفاع / لو يكبر الحمام...»، ويعود ليقول: «احمل بلادك أنّى ذهبتَ وكُنْ نرجسيّاً إذا لزم الأمرُ/ منفىً هوَ العالَمُ الخارجيُّ / ومنفىً هوَ العالَمُ الباطنيّ / فمن أنت بينهما؟ /لا أعرِّفُ نفسى / لئلاّ أضيِّعها، وأنا ما أنا»، وفى أبيات أخرى: «لا, لا ضحيَّةَ تسأل جلاّدها: هل أَنا أَنت؟ لو كان سيفيَ أكبرَ من وردتى، هل ستسأل إن كُنْتُ أَفعل مثلَكْ؟»، «منفىً هو العالم الخارجيُّ، ومنفىً هو العالم الداخليُّ، من أَنت بينهما؟»، «لا الشرقُ شرقٌ تماماً، ولا الغربُ غربٌ تماماً، لأن الهويَّةَ مفتوحةٌ للتعدُّد، لا قلعةً أو خنادقَ».

عاصرتِ أحداثاً تاريخية وعسكرية كثيرة، الانتفاضة الثانية عام 2000، انسحاب القوات الإسرائيلية من قطاع غزة 2005، فوز حماس بانتخابات 2006، حصار غزة براً وبحراً وجواً، ثم الاقتتال بين الفصائل الفلسطينية، وحرب 2014 الأطول فى تاريخ غزة، إلى أى مدى أثر ذلك على حياة نيروز الأدبية؟

الأحداث كانت المخاضات التى حملت فى رحمها تدفق الموهبة، موهبتى الكامنة فى لحظة، حين تنفجر فى حالة ما، وتنسال بروية فى حالة أخرى، لم أكن معنية فى إظهارها أو إعلانها، لكنها المخيلة ولعبة الحواس انتهاء بنطق اللسان وعزف الأنامل لارتخاء المعنى والصورة، «انتفاضة، انسحاب، اقتتال، حرب، فوز» مفردات العبور الإنسانى والزمانى للصراع. تشريح الوريد للصدمات، ذاك الـتأمل والفوران والخشية والبهجة واحتدام الغضب، كل تلك الحالات عشتها عاصرتها أخذت منى، وأخذت منها، بادلتنى وبادلتها، اقتربت منى وابتعدت عنها، نهشت منى ونهشتها، كنا صنيعها وغدوت صانعاً صغيراً فى جدلياتها، كنت الضفيرة الطويلة فى بكائها، وابتساماتها، الفقدان والولادة، القوة والضعف، وسرد الضفاف على شفير الصمود.

«جميعنا يبحث عن فرصة ضائعة فى هذه الحياة»، ما هى فرصك الضائعة التى تبحثين عنها؟

لربما حياة ضائعة بأكملها، غيبتها فرصة الاستقرار والاستقلال عنى، عندما تحيا فى عالم لا يشوبه أى نوع من الهدوء، ولا يكف عقلك عن بحث توتر هادئ يسير بك ليوازى بسيره تكلفة فرصة بديلة.

«رأسها لأسفل.. تدرس، لأعلى.. تحلم بالسفر والهروب»، ماذا عن أحلامك ومن أى الأشياء تهربين؟

أهرب ممن يسرق وقتى عنوة. الزمن هو لب التغير والحلم والثبات، لا أعيش أحلاماً، أحيا الواقع بمرونة المخيلة وإرادة البحث عن حياة ممكنة.

ما يمثل حرصك على إطلاق أعمالك الأدبية باللغة العربية من القاهرة؟

القاهرة المشهد السينمائى الأول فى العالم العربى، اللغة المتعرجة بين ثقافاتٍ قارية متنوعة، وتاريخ ثقافى مأخوذ به إلى الآن إنسان العالم الحديث، حتى بتصميمه أدق خيوط أزيائه، اللغة العربية تنحت حروفها على حجارة الأهرام المتوارية عن حريق العالم، والساطعة فى أفريقيا القمر الجديد، خيوط الذهب ستمتد فى طريق الحرير، الطريق الذى ينسج إيماء الصوت الحسى فى حرف عربى سيترف برخامة ثقافته على مهلٍ، سيحدث هذا فى أشد الحارات جلبة وفقراً.

ما مشروعكِ الأدبى القادم؟

يأتينى دون أن يشعر، يفتح بابه، وأحمله لباً وعنواناً فى صدرى،  دعنا نرى، تختمر الغيمة وتسود حبات العنب.

اقرأ أيضا : مجلس القبائل والعائلات المصرية يدعم الأشقاء بـ «فلسطين عربية»