فى الذكرى الـ 50 لغياب عميد الأدب العربى

توفيق الحكيم يرثى طه حسين بكلمات نُقِشتْ على نعشه

ما أكثر حكايات د. طه حسين مع توفيق الحكيم
ما أكثر حكايات د. طه حسين مع توفيق الحكيم

مضى على رحيل عميد الأدب العربى د. طه حسين نصف قرن من الزمان منذ أن غادر عالمنا فى 28 أكتوبر 1973 بعد 22 يوما من عبور قواتنا المسلحة لقناة السويس فى السادس من أكتوبر العظيم الذى استردت فيه مصر الكرامة، خرج جثمان عميد الأدب العربى فى نعش ملفوف بعلم مصر من بوابة جامعة القاهرة حسب وصيته، يحمله طلاب يرتدون الزى العسكرى، كان فى مقدمة الجنازة نائبا رئيس الجمهورية حسين الشافعى، ود. محمود فوزى، ونجل الفقيد العظيم مؤنس طه حسين، وعدد من السفراء وممثلو الدول الأجنبية وأساتذة الجامعات، كان مقررا أن تكون الجنازة رسمية، لكنها تحولت لجنازة شعبية بمشاركة أبناء الشعب الذين أتاح لهم العميد حق التعليم الذى وصفه بالماء والهواء، وامتدت على باب القاعة بالجامعة لافتة تحمل العبارة التى قالها الكبير توفيق الحكيم فى وداع صديق عمره التى يقول فيها: «فارقت روحه الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر» فى إشارة منه إلى نصر أكتوبر، وعلقت الجامعة على الباب الخارجى لافتة مكتوبا عليها : «التزمت بتراب مصر حتى عشت أيام انتصاره».


وكان أديبنا الكبير توفيق الحكيم قد نشر كلمة رثاء موجزة  بجريدة «الأهرام»  بعنوان «فارق الحياة بعد أن فارق اليأس روح مصر» يقول فيها: «فجيعة الأدب العربى فى عميده العظيم، وفجيعتى أكبر فى أخ قديم كريم، وإذا كان اللسان العربى منذ نطق أدبًا سوف ينطق إلى آخر الدهر باسم طه حسين وفضله على لغة العرب، فإن لسان القلب لن يكف عن ترديد ذكراه ما بقيت على قيد الحياة، فقد جمعتنا أجمل أيام العمر كما جمعنا الفكر على صفحات كتاب».
وعندما نحيى الذكرى الخمسين لرحيل عميد الأدب العربى فلابد أن نستعيد حكايات الارتباط الوثيق بين قامتين من قامات الفكر والأدب العربى هما الدكتور طه حسين وصديقه توفيق الحكيم الذى كان يشاغبه كثيرا، وما أكثر الذين كانوا يوقعون بينهما، لكنهما كانا يتصالحان ويعود الود والاحترام والتقدير والصداقة القائمة  بينهما على المودة المشتركة.
وللتدليل على ما كان يكنه توفيق الحكيم لطه حسين من مكانة وتقدير أنه قال فى حوار صحفى  معه: «الدكتور طه حسين يستحق جائزة نوبل عن جدارة، ولو تُرك لى الخيار لرشحته لهذه الجائزة، فهو فى نظرى يستحق نوبل لاعتبارات كثيرة، من أهمها أنه رجل ضرير استطاع أن يخرج من البيئة الدينية التى نشأ فيها إلى أوروبا، ويعمق تفكيره ويقيم جسرًا ثقافيًّا بين الأزهر والسوربون، وكان يتوجب على الغرب أن يقدر هذا الجسر فضلًا عن الصرح الفكرى الذى شيده إنسان ضرير، ثم إن طه حسين كان مناضلًا  وسيظل، جاهد من وجهة نظر إنسانية ضد الظلام وأبدع ، أجل طه حسين كان يستحق فعلًا جائزة نوبل للآداب».


ومن المواقف التى تذكر أيضا أن الأديب يوسف السباعى عندما كان وزيرا للثقافة زار توفيق الحكيم فى مكتبه وعرض عليه أن يكون رئيسًا لأول نادٍ للقصة يقام برعاية حكومية، وفوجئ السباعى برفض توفيق الحكيم للعرض وهو يقول «لا يصح أن تُشكل مصر ناديا للقصة لا يكون طه حسين رئيسه»، وعندما تلقَّى  الحكيم دعوة لزيارة الاتحاد السوفيتى لحضور مهرجان أدبى اشترط أن يُصاحبه فى الزيارة صديقه د. طه حسين ورفض السفر عندما لم يستجيبوا لرغبته، وعندما انتخب توفيق الحكيم عضوًا بمجمع اللغة العربية عام 1954، كان من أكثر المُرحبين به رئيس المجمع  الذى هو طه حسين، وحرص على استقباله على باب المجمع، خلافًا للمعتاد بأن يكون المُستقبِل هو  الكاتب أحمد أمين  صاحب ترشيح الحكيم للمنصب.
وفى المقابل للتدليل على تقدير د. طه حسين لصديقه توفيق الحكيم، عرض عميد الأدب العربى فى جلسة لمجلس الوزراء بحكومة الوفدى التى اختارته وزيرا للمعارف، رغبته فى ترشيح الكاتب الكبير توفيق الحكيم رئيسًا لدار الكتب، فوجم الوزراء وتوقعوا أن يثور النحاس على د. طه حسين لأنه جرؤ على ترشيح الحكيم الذى يهاجمه شخصيا فى الصحف، ويطالب  فى اجتماع مجلس الوزراء بترقيته من موظف درجة ثالثة إلى مدير عام بدرجة وكيل وزارة!!، لكن الوزراء الواجمين فوجئوا بموافقة النحاس باشا على اقتراح طه حسين احترامًا لمكانته.
وعندما نتصفح كتاب «أيام العمر» للكاتب إبراهيم عبد العزيز سوف نستمتع بالمراسلات التى كانت بين العميد طه حسين وتوفيق الحكيم بالعربية والفرنسية سواء كانا يتبادلانها وهما فى القاهرة أو اثناء سفر أحدهما للخارج، ففى عام 1951 قرَّر العميد أن يقضى الصيف فى أوروبا كعادته، ولم يستطع توفيق الحكيم أن يلحق به هذه المرة فقد تعود أن يسافرا معا فى مرات كثيرة، وأرسل د. طه حسين خطابًا  للحكيم يقول فيه: «قد مضت أيام كثيرة طويلة منذ افترقنا، ولكنا نذكرك فنطيل ذكرك، وأذكرك حين أخلو إلى نفسى فأطيل ذكرك أيضًا، فأنت بعيد قريب. أنت كاتب نابه.. بل نابغة»، وكان د. طه حسين عندما قامت ثورة 23 يوليو 1952 فى إيطاليا فأرسل خطابا للحكيم يقول فيه: «كم كنت أحب أن أكون معك فى مصر، أو أن تكون معى فى أوروبا فى هذه الأيام التى تنشر فيها مصر تاريخها كتابًا وتطوى كتابًا. خيل لى أن للأدب حقه فى هذه الثورة الرائعة هيأها له قبل أن تكون، وسيثورها بعد أن كانت. نفسى ليست مستقرة. جثمانى فى إيطاليا ونفسى فى مصر»، ورد عليه الحكيم برسالة يقول فيها: «إن أحداث مصر قد شغلتنا عن الحر والشعور بوطأته، وهى أحداث أجل من أن توصف فى خطاب، بل إنى أرى الأدب عاجزًا عن تسجيل تلاحقها السريع، إن كل شيء فى رأسى ونفسى مضطرب وثائر، وإنى لأفكر فى كل شيء كما لو كنت أنا المنوط به حل الأمور، فأنا أعيش حياة بلادى الآن كما يعيشها المواطن الصالح، أعيشها كإنسان وكمصرى، وأرجو أن أعيشها مرة أخرى كأديب عندما يكتمل لى استيعاب أكثر نواحيها».


تعود توفيق الحكيم على استشارة د. طه حسين فى بعض كتبه التى يعدها، وفعل ذلك فى كتاب «محمد»، ولأول مرة يلتقى كاتبان كبيران فى إبداع مشترك بينهما مثلما حدث مع د. طه حسين وتوفيق الحكيم فى كتاب «القصر المسحور» ونبعت فكرة هذا الكتاب عندما سافرا معًا للاصطياف عام 1936 بقرية «سالانش» الفرنسية التى تقع على جبال الألب، نزلا معًا فى فندق واحد ومرَّا بالكثير من المواقف التى حفزتهما على تأليف هذا الكتاب الذى كانت بطلته «شهر زاد»، التى كانت ستُفرق بينهما ذات يوم للأبد، وكان العميد متخوفا من هذه التجربة بعكس حماس توفيق الحكيم الزائد لها، وعلق توفيق الحكيم فى حوار صحفى على هذه التجربة عام 1985 قائلًا: «كنا نريد اللهو، وكانت شخصية شهرزاد، التى طغت على الشخصيات الأدبية فى الأدب العربى، موضع هذا اللهو، شهر زاد تعد أشهر الشهيرات ولا أحد ينكر معرفتها، لهذا أردنا اللهو بها، ومن خلال تبادلنا للرسائل اكتشفنا أنها هى التى سخرت منا ومن كل الأدباء.
«كنوز»