«النعش والكرسي المتحرك» قصة قصيرة للكاتب محمد فايز حجازي

الكاتب محمد فايز حجازي
الكاتب محمد فايز حجازي

 

 سنوات طوال مرت، والحال كما هو، نعم لا يسوء لكنه لا يتحسن أيضًا، سنوات طوال منذ أن كان في السابعة من عمره، حينها - وبغير إنذار مُسبق- وهن جسده، انهارت بنيته تمامًا، بدأت يداه وقدماه في التراخي، وأخذت عضلاته في الضمور.

 

سقط الصغير أسيرًا للفراش، طريحًا يكبُر بين أحضان الوسائد والدثائر حتى بلغ الخامسة عشر، قبلها كان طبيعيًا تمامًا، نشطًا كأقرانه، يلعب الكرة في الحارة، يجري ويمرح، ويختبئ عن عين والده، عندما يراه على البعد قادمًا من عمله، غير أنه ومع وقوع الفاجعة، ظل يتلاشى شيئاً فشيًا فلم يبق له إلا لحمًا قليلًا يكسو عظامه البالية، لم يضمُر، حُفظت فيه روحه مع مرور كل هذا الوقت، ورشة الطبيعة بداخله مازالت تعمل، مضخات الدم، نبضات الأوعية الدموية، تحركات العظام والعضلات، بالإضافة إلي ذهن مازال متقدًا ذكيًا، لم تؤثر فيه نوبات الحرارة التي ترتفع في أحشائه في ليالي كثيرة، حينها كان الصغير يعتقد أن هناك من يضرم النار من تحته، في جسده وفراشه، وإن أثرت تلك الحمي علي نطقه فأصبح بطيئًا ثقيلا.

 

- هذا الصبي لن يحيا ليومين آخرين.

 

 (ظل الجيران في الحارة يقولونها فيما بينهم لثمانية أعوام). والصبي مازال حيًا، بل وبفضل أمه يقرأ ويتعلم، تحمله كطفل رضيع بين ذراعيها الناحلين بصورة دورية إلى الأطباء، وإلى اللجان الخاصة وقت الامتحانات، لم يفشل قط في أي عامٍ دراسي، لم تيأس الأم في شفاء ابنها أو تقنط يومًا، وإن فقدت هي الأخرى معظم قواها.

     وبرغم كل شيء، إلا أن أحدًا ممن في المنزل، لم يفقد التبسم في وجه الصبي يومًا، ومداعبته على الدوام.

 

     كان الأب ذا قلبًا لينًا، لا يمكن التنبؤ متي ستدمع عيناه، لأن عينيه كانتا دائمًا رطبتين من الطيبة والتأثر، يعشق أسرته ذلك العشق الذي لا يقوى عليه إلا الضعفاء جدًا.

 

     قبل ثمانية أعوام حينما أخبره الطبيب بمرض ابنه، وطلب منه الرعاية القصوى، جمع الأب حوله أفراد أسرته، زوجته وابنته وأخته الوحيدة التي دائمًا ما كانت تأتي لزيارتهم وقال لهم:

 

-  فليكن كل شيء من أجل إنقاذ هذا الطفل.

 

    بعد شهور اشتري لصغيره كرسي متحرك، كان يشعر بعذاب الضمير عندما يخرج لعمله وينسي ولو للحظة صغيرة المريض، وكانت أسرته تفكر بصورة مشابهة. خلال ثمانية سنوات أقلعوا جميعًا عن الضحك إلا أمام الصبي.

 

    مع الشهور والسنين، أصبح الدائنون يقرعون جرس الباب بعنف ومثابرة مُتزايدين، تحمل الأب قدره بشجاعة نادرة، التحق بعمل إضافي، ضاعف من ساعات عمله، وإن لم يمنع هذا من اختفاء بعض قطع الأثاث من المنزل، وكل الزينة المنزلية التي لا تخدم إلا الغرور فقط، لكن غرفة الصغير ظلت متألقة على الدوام.

 

  وغني عن القول، كم كابدت الأم لأجل سعادة صبيها! إذ كانت لا تقبل على الإطلاق، أن يعتني أحد به إلاها، حتى أخته الكبرى لم يكن لها الحق في تغيير فراشه، كانت فقط تقرأ له الكتب والقصص التي يعشقها، وتساعد الأم في حمله علي الكرسي المتحرك، إذا ما أراد الصبي الجلوس صباحًا أمام باب البيت بعد مغادرة أبيه إلي العمل، لرؤية المارة في الحارة، ومداعبة الأطفال، ومتابعة القطط والكلاب الضالة في رحلاتهم إلي بيوت الحارة طلبًا للقوت، فيلقم تلك القطة قطعة خبز مدهونة بالجبن، أو يسقي ذلك الكلب ما تبقي في كوبه من لبن، ويظل علي تلك الحالة، يُحيي هذا بكلمات ودودة حانية، ويبتسم إلي هذه بحب وصفاء،  حتي إذا ما أرهق بعد ساعة أو اثنين، نادي علي أخته وأمه ليدخلانه حيث سريره، رفيقه الأبدي، تكون الأم حينها قد رتبت غرفته، أعدت له الينسون الدافئ، وأدارت التلفاز علي برنامج الأطفال المفضل له. أو فيلمًا كوميديًا يشاهدونه معًا ضاحكين، وكثيرًا ما كانت تذهب به إلى المدرسة ليحضر درسًا ويري أصدقائه، كانت تفعل هذا بشكل استثنائي بعد الاتفاق مع ناظر المدرسة.

 

    في المساء عندما كانت الحُمّي تدخل المنزل في جلال، تتسلل إلى فراش الصغير بخبث ومكر، قبل هذه الأوقات كان الصبي يجلس في سريره، ينظر حوله في حياء، يلقي نظرة عامة على ذويه، هل كلهم موجودون إلى جواره! تعرف العائلة واجبتها جيدًا، غير مسموح لأحد أن يتغيب، حالما يصبح الجميع موجودون، يجلسون ببطء إلى جوار السرير ينتظرون، زجاجات الدواء مرصوصة في ترتيب وعناية، الماء المثلج في دلو بجوار السرير، كل هذه المراسم كانت تشبه تمامًا احتفالًا دينيًا، مجلس ذكر لصرف شيطان رجيم، في البداية كان شيطان الحمَي يجعل جسد الصغير يقشعر، ثم ينفث رياح السموم في وجهه، ويضرم النار في عينيه.

 

- أمي. (ينوح المريض ويمسك بيد أمه النحيفة). ها هي الحمي. (يقولها الطفل برزانة ويجس بضعف رأسه المتقد.

    يجلس الجميع لساعات، الأب والأم والأخت، حتى إذا ما ذهبت الحمَي، نام المريض راضيًا، وانصرف الجميع إلى غرفهم على أطراف أصابعهم، واحدًا تلو الآخر مطمئنين.

    

في شهر رمضان المبارك، تحسنت حالة الصبي بشكل واضح أعطيت له روحًا جديدة، ونما له لحمًأ في جسده، كي يجد الضمور ما يهلكه مرة أخري!

 

     ولكن مع دنو الشتاء، تحولت حالته فجأة على نحو خطير، أصابته الحمي أيامًا، أصبح يهذي، وأمسي الجميع بانتظار موته، مع الأدوية، وضعت له الكمادات على رأسه وقريء له القرآن، خيل له أن كل ثلوج العالم ليس بمقدورها إطفاء هذا الجحيم، الذي هاج في جسده الواهن.

         

      كعادتها لم تضجر الأسرة منه، جعلوا يذرعون الغرفة جيئة وذهابًا بإيماءات ونظرات بائسة، وكانت الأم تقف على قدميها طوال الليل بجواره، شاحبة وهزيلة، مشمرة عن ساعديها، تضع الكمادات على جبهته، كانت وحدها المستيقظة.

 

     بعد أيام أصيبت بالبرد، سعلت وآلمتها رأسها، ولكنها مازالت تنام على الأريكة بجواره.

 

   في اليوم الثاني ارتفعت حرارتها.

   في اليوم الثالث وجب عليها أن ترقد في السرير بالغرفة المجاورة، وقرب الفجر ماتت من الالتهاب الرئوي.

 

  أغلق الأب الباب بالمفتاح مختنقًا بدموعه، وكان الصبي مازال نائمًا، في الصباح، غُسلت الأم وكُفنت، عندما عرف الصبي، قطب جبينه، حملق أمامه، لكنه لم يبك، هو فقط أطال التفكير، ثم صلي نائمًا، مشبكًا يديه فوق بعضها، تمامًا كوضع الميت، كما لو كان هو الذي سيدفن وليس أمه، بعد الظهر بدأت مراسم الدفن، حينها جاءت عمته إلى المنزل، نظر إليها نظرة عداء، وعندما أخرجوا النعش من الغرفة المجاورة، صاح باتجاهها بصوت مضطرب:

- تعالي إلي هنا. (قفزت إليه العمة)، ألبسيني (حاولت العمة إلباسه في شيء من عدم الدراية وعدم الخبرة)

- أسرعي، المعطف السميك. (صاح فارغ الصبر).

 

     دثرته العمة بجدية، نادت أخته، حملاه بحرص وبتؤدة كما لو كانتا تحملان دولابًا قابلًا للكسر، حملاه بصعوبة أكثر كثيرًا من حاملي جسد أمه، حملاه إلي الكرسي ذي الذراعين العريضين، دفعتاه إلي خارج البيت، كان الكرسي المتحرك يتقدم النعش في الطريق إلي المقابر، يتناوب علي دفعه بعض رجال وشباب الحارة، كما يتناوبون علي حمل النعش،  بدا الصبي في الملابس الشتوية الثقيلة أثمن، وبدا علي كرسيه المتقدم، كملك علي عرشه، يتقدم موكب صامت مهيب، ملك الحمي، أمير المرض الصغير، يحدق إلي الأصحاء بصرامة وشجاعة، الأصحاء يتحركون في الطريق بطمأنينة وبمفاصل خفيفة الحركة، كانت دقات قلبه عنيفة للغاية، وكان وجهه فخورًا وراضيًا، ولا يشبه بأي شكل من الأشكال وجه الملاك.

 

    رأي أباه يسير مذهولًا أمام النعش كما لو كان سكرانًا، يشرب دموعه التي تسيل على شفاهه، وتتلألأ بخشونة كقطع الثلج الأبيض. رأي أيضًا على جانب الموكب أخته الكبري، بدت في ردائها الأسود تحت غيوم الشتاء قبيحة وشمطاء، وكان من خلفهما الأقارب.

 

     وصل الموكب الجنائزي إلى المسجد، صلي الجميع صلاة الجنازة، دعوا الله كثيرًا لأجل الأم، دعوه في الصلاة وعند الدفن.

     عندما عادوا إلى المنزل، كان الصغير متعبًا للغاية، شعر بالنعاس، تثاءب وعاد إلى فراشه، أرقدته العمة مرتعدة.

 

- انتظري. (قالها الصبي بمجرد أن تسطح على سريره)، قطب حاجبيه، ورفع ذراعه النحيل آمرًا:

 - لو استغرقت في النوم، لا توقظيني...

        ولا حتي أبي يوقظني...

       فقط اعبري بهدوء إلي الغرفة الأخري...

        أتفهمين!