محمد توفيق يكتب|غياب يؤكد الحضور

بهاء طاهر
بهاء طاهر

مر عام يا صديقى. 
لحقت بك الدكتورة فوزية أسعد قبل أيام، مثلما لحقت أنت بصديقنا الأديب جميل عطية إبراهيم. لعلكم التقيتم فى بُعد آخر للوجود، لكنكم بالنسبة لى لم تتركوا هذا البُعد الذى أمكث فيه مؤقتا. هنا حيث أجد نفسى، لا زلنا نجتمع.. ربما فى منزل الدكتورة فوزية فى ضاحية كولونج بيلريف فى جنيف. إن صيفا نجلس فى الحديقة. نتأمل سيقان البامبو التى انتشرت حتى أوشكت أن تستعمرها، ونستمع إلى سرد صاحبة الدار لمحاولاتها الفاشلة للسيطرة على البامبو المعتدى. دعت مضيفتنا كذلك مجموعة من الكتَّاب الأجانب. ربما كانت بينهم جين أليسون الفاتنة الأسترالية ذات القلم المسحور. أهمس إليها عن إنجازك الأدبى. تسألك عن كتاباتك. ترد باقتضاب. أعرف كم تكره أن تتباهى.
أتدخل لأحدثها عن رواية «الحب فى المنفى».. فأدبك لا يتساهل مع مسئولية إسرائيل عن ذبح الفلسطينيين المحاصرين، بينما العالم المتحضر يشاهد المجازر بتواطؤ يؤول إلى سادية. هذا تواطؤ خبيث لا يكتفى بإهدار القيم الإنسانية ومخالفة المواثيق الدولية، بل يذهب إلى ما هو أبعد بكثير.. يتلاعب بالعقول.. ويحول الجلاد إلى ضحية، بل ويعلن إن الغربيين وحدهم يستحقون المعاملة الإنسانية.. وما عداهم دمه مباح وكرامته مهدرة. أما العالم العربى ففى عجز يندد. بعضنا متواطئ هو الآخر.. لكن لا مخرج لأحد منا من وحل المهانة. أقول للكتاب الأجانب إن روايتك تجسد بدقة أزمة المثقف العربى.. سواء كان منفاه جغرافيا أم نفسيا.. ذلك المثقف المحاصر هو الآخر. 
تهز رأسك. ملامحك الفرعونية تشى بموروث ثقافى لحضارة جامعة متعددة الروافد، دورها مؤسس للمسيرة البشرية. بسمتك الهادئة كاشفة لشعور وطنى لا يغيب الهمُّ العام عنه.. معبرة عن جرح جمعى غائر.    
تتحدث أنت أخيرا عن قضايانا، تتكلم فيصمتون. لا تنطق بشوفينية محلية بل من منطلق المبادئ الإنسانية كالحرية والعدالة والتعددية والتعايش وقبول الآخر. تطرح حقوق الفلسطينيين ليس على سبيل الاستجداء لكن كحق يجب أن تتمتع به سائر الشعوب، يكافح من أجله البشر أينما كانوا. تتكلم بقوة الواثق من هويته، وبانفتاح المتواصل مع جذوره الإنسانية. 
كما ترى يا صديقى، الحب فى المنفى أبلغ وصف لأحداث الأمس واليوم. وقتئذ كان شارون واليوم نتانياهو.. والفرق ليس كبيرا على أى حال. هكذا الأديب ذو البصيرة.. دائم الحضور.
>>>
 أكاد أوقن أن الدكتورة فوزية دعت كذلك الكاتبة الأمريكية سوزان تبرغيان، مؤسسة واحدة من أهم ورش الكتابة على مستوى العالم، والمهتمة بكتابة الذات الدفينة. 
كتابة الذات الدفينة.. وهل وجد من هو أعلم بها منك؟ 
أسترجع أحاديثك عن قصة «أنا الملك جئت»، ذاك النموذج الفريد لكتابة الذات الدفينة. عندما لم أنجح فى الحصول عليها أهديتنى نسخة. تعرفت بالفعل على عمل إبداعى مذهل فى شفافيته، يتعامل مع الذات على أكثر من مستوى: الذات الجمعية النابعة من التراث بطبقاته كمكون لا غنى عنه فى حاضرنا.. الذات المادية المحددة فى الزمان والمكان، التواقة إلى اللا منتهى فى آن.. والنفس البشرية كثقب أسود تتوقف عنده قوانين الفيزياء، لكننا لا نكف مع هذا عن محاولة التواصل معها، خاصة بالمرور من تلك النافذة السحرية التى يفتحها الأدب أمامنا.
ربما حضرت إحدى أديباتنا المشاركات فى النُزُل المخصص لإقامة الكتاب فى قرية لافينيى، لعلها اليوم سلوى بكر أو هالة البدرى أو سحر توفيق أو نورا أمين أو المرحومة نعمات البحيرى أو لعله ناقدنا العزيز المرحوم إبراهيم فتحى وحرمه الدكتورة هناء. ألاحظ تقديرهم لك، وترحيبك الودود بهم، وعلاقاتك العضوية بحركة الأدب فى عالمنا العربى.    
إن تزامنت جلستنا مع احتفال شعبى ما، ربما نسير فى مجموعات مثرثرة إلى الحديقة العامة المطلة على البحيرة. نجلس على الدكك الخشبية ونتابع الألعاب النارية تزركش السماء بتداخل مبهج للون والضوء، وتصم أذاننا مؤقتا بقرقعة البارود. فى فترات الهدنة يتحدث الأستاذ جميل عن النظام الدولى المجحف على فقراء العالم، وما له من تبعات تمس كل مجتمع. فى تلك الفترة -كما تتذكر يا صديقى- صدرت روايتا جميل عطية إبراهيم «خزانة الكلام» و«المسألة الهمجية»، وطبعا روايتك الرائعة «نقطة النور».  
رواية «نقطة النور» تستكشف أيضا تلك العلاقة الخفية أحيانا بين تطورات النظام الدولى وتحولات مجتمعنا على وجه التحديد. فتلك التحولات التى بدأت فى السبعينيات وأخذت المصريين فى سباق محموم وراء المادة، ليست بعيدة عن التغير الذى حدث فى توجهاتنا الخارجية. روايتك -مثل روايتىْ الأستاذ جميل- محملة بتلك الشواغل التى تداولناها ثلاثتنا حول النظام العالمى الذى أخذ يتبلور فى تلك المرحلة، وكنا -كل من موقعه- نتابع تفاصيله من خلال عمل أجهزة الأمم المتحدة ووكالاتها المتخصصة فى جنيف. فى روايتك تذكرنا بأن توازن مجتمعنا وتماسكه لا يحفظه غير «نقطة النور» المتمثلة فى تلك القيم الإنسانية التى أغفلها الكثيرون منا.
ألا يجدر بنا يا صديقى أن نعيد قراءتها ونحن على أعتاب نظام دولى جديد يتشكل أمام أعيننا.. يتشكل بالحديد والنار كما يتشكل بالبروباجاندا والثقافة والاقتصاد والتكنولوجيا؟ 
>>>
ربما فى طريق العودة تحدثنا الدكتورة فوزية عن فلسفة التوحيد عند إخناتون. ها هى تتناول مسألة الهوية من زاوية أخرى، زاوية ليست بعيدة عن أعمالك، بل حاضرة بقوة. صورة إخناتون فى ذهننا الجمعى لا تقتصر على عقيدة التوحيد.. فهو الحائر الأول، الباحث دوما عن الحقيقة، المحاط بضباب الغموض. هو صاحب المعبد الذى يصل إليه الساعى بعد ضلال فى الصحارى، يصل إليه حظا أو حدسا، وإن وصل لن يستطيع العودة. هو الملك الذى جاء فى قصتك ولم يذهب. نسير بين ظلال تحت أشعة كشافات الشوارع الخجول، وعقولنا متيقظة بالأفكار والخيالات. 
قبل أن نتجه للعودة ربما نتوقف أمام السيارات كما نفعل لانتشال آخر خيوط الحوار. لعلنى أذكر الصعوبات التى تواجهنى فى عملية البحث التاريخى، استعدادا لكتابة رواية تتناول رحلة قام بها أحمد حسنين باشا مع المستكشفة الإنجليزية روزيتا فوربز إلى واحة الكفرة فى الصحراء الليبية. حكايات الصحراء ليست بعيدة عنا. فمصر فى حقيقتها واحة كبرى، بل جزيرة والصحراء محيطها. تهتم بالموضوع. فأنت ابن الوادى البار، إن أمكن لأبناء الدلتا أن يغفلوا الصحراء، فحقيقتها واقعة فى أعين أبناء الوادى أينما اتجهت. تقول إنك شغوف بكتابة رواية من أدب الصحراء منذ قصة «أنا الملك جئت»، بل إنك تضع بالفعل خطوطها الأولية. أتطلع إلى العمل وإن كنت أعرف أنه لن يأتى قبل عدة سنوات. أنت لا تسارع إلى الانتهاء من العمل ونشره، بل تتركه يختمر فى عقلك ووجدانك.. فعندما يصدر يكتسب موقعا فى وجداننا الجمعى.. يصدر ليبقى. 
اليوم وقد مر عام، أقول لك إنك لم تغب لحظة. أنت حاضر فى تلك المودة الصادقة التى تربطنى وزوجتى أمانى بدينا ويسر والسيدة ستيفكا والسيدة ميرفت رجب. أرى طيفك كلما مررت أمام بيتك فى الزمالك، أو جلست على مقهى مكتبة الديوان، أو زهرة البستان، أو موقعك المفضل فى مقهى رباعيات الخيام.. أتفاعل معك فى تلك الومضات واللقطات. لكنها ليست أبدا ذكريات لأحداث انقضت، بل لحظات حية لا تفارقنى. وإن كانت إقامتى الأرضية كحال البشر إلى زوال، فماذا يبقى من تلك الحوارات والهموم والمشاعر؟ أقول لك بالدليل العملى: الأدب ثم الأدب. فعندما أعيد قراءة أعمالك لا أجدها تحاور ماضيا زال أو تاريخا فقد مدلوله، بل تتفاعل مع واقعنا الراهن ومستقبلا يكاد يداهمنا بلا هوادة. 
هكذا المبدع.. دائم الحضور وإن غاب.