محمد سليم شوشة يكتب| السرد والهوية المصرية

بهاء طاهر
بهاء طاهر

لا يمكن لأى فن أو شكل أدبى قوى أو له خطاب يعتد به وله تأثيره أن يكون بريئا تماما ومجردا بشكل كامل من الأيديولوجيا، والأيديولوجيا ليست سلبية كما قد نتصور، بل إن السلبى هو أن تكون مباشِرة أو تأتى على حساب التشكيل الجمالى، والطبيعى أن يحمل أى فن قوى أو أى خطاب أدبى مقدر ومحترم الأيديولوجيا ولو بشكل ناعم وسلس أو غير صاخب. والحقيقة أن خطاب بهاء طاهر هو واحد من أكثر الخطابات الأدبية حملا للأيديولوجيا وبخاصة تلك التى تتلاحم وتندغم بشكل كامل وتتماهى مع الشكل الفنى أو تذوب إلى أقصى درجة من الذوبان فى التشكيل الفنى والجمالى لسرد بهاء طاهر.
والحقيقة أن فحص التكوين الأيديولوجى والرسائل المضمرة فى سرد بهاء طاهر بمعزل عن القيم الجمالية والتكوين السردى الممتع قد يكون ظالما، ولكنه فى الوقت ذاته ربما يكون ضروريا من باب أنه قد يكون غير مطروق أو غير منظور، وبخاصة إذا كانت هذه الأيديولوجيا هى بذاتها جمالية أو تمثل قيمة مهمة بالنسبة للثقافة المصرية. فيبدو واضحا تماما أن سرد بهاء طاهر يعكس انشغالا عميقا بملامح الهوية المصرية والثقافة المصرية وبخاصة تلك التى تتشكل من الأبعاد المصرية القديمة أو الحضارة المصرية القديمة فى عصر الأسرات وقبل عصور الانحطاط، لا أقول الثقافة الفرعونية كما هو دارج خطأ ولكن أقصد الثقافة المصرية القديمة المتمثلة فى عصر بناة الأهرامات وعصر الالتحام المادى والروحى، وهذا الانشغال بمكونات الهوية المصرية القديمة يبدو ممتدا ومهيمنا على إبداع بهاء طاهر فى قصصه القصيرة وفى رواياته كذلك سواء باتساع فى مساحة المعالجة أو عبر إشارات عابرة عميقة.
واللافت للانتباه أن تشكيل الهوية المصرية فى خطاب بهاء طاهر السردى يمضى عبر نسق مغاير من الوعى والاستيعاب العميق لمحددات الهوية المصرية، وأبرز ملامح هذا الوعى يأتى عبر التكوين والتشكيل الجغرافى وقيمة المحددات البيئية والطبيعية لمصر وأن هذا التنوع والتكوين الجغرافى الخاص هو جزء مهم من أسرار قوة مصر وشخصيتها عبر الزمن، فيركز بهاء طاهر مثلا على عدد من محددات الهوية المكانية والجغرافية لمصر وقد ما ينتج عنها من الغنى والثراء، وأبرزها النيل أو الوادى الذى يمكن أن يكون أول ما يظهر لديه وبتكرار أو تواتر فى أكثر من عمل.
والطريف كما ذكرت أن يأتى ذلك بدون مباشرة ولكن عبر عين راصدة مختلفة أو مغايرة، ونموذجه المثالى ما نجده متحققا فى هذا الاقتباس من قصة «أنا الملك جئت». عبر عين مارتين الفتاة الفرنسية التى أغرمت بمصر وتراثها وطبيعتها. «يراها فى قطار الصعيد وهما فى طريقهما إلى الأقصر، تتطلع بدهشة إلى النيل وإلى القرى الفقيرة على جانبيه، تقول كأنها قرية واحدة تتكرر كل حين. صنع النيل النموذج ورماه على جانبيه فى الشمال كما فى الجنوب. تلك وحدة مصر المقدسة». 
والنيل تحديدا ربما يكون أكثر المكونات الطبيعية حضورا فى خطاب بهاء طاهر السردى ليس لمجرد كونه فضاء مكانيا للأحداث ولكن عبر معطياته الثقافية العميقة بوصفه مانحا للحياة وبوصفه مرتكزا وجوديا يمتد من قديم الأزل وبخاصة من العصور المصرية القديمة، وكذلك بوصف نهر النيل عاملا أساسيا من عوامل تشكيل الحياة فى مصر ومنحها خصوصيتها بل تشكيل هوية الإنسان المصرى كذلك، وتكوينه معرفيا.
يركز خطاب بهاء طاهر السردى كذلك على حضور الصحراء وأسرارها وكنوزها وأدوارها ومعطياتها الثقافية فى تشكيل الهوية المصرية وقيمة الصحراء وانعكاسها على كل أبعاد الحياة فى مصر، وهذا ما نجده فى عدد من القصص القصيرة وكذلك فى الرواية وبخاصة «واحة الغروب» التى تأخذ الصحراء فيها حضورا خاصا فى غاية الثراء والجمال، فكأن الصحراء لديه كون قائم بذاته أو عالم حافل بالأسرار والغموض، ويبدو فى سرده طارحا للصحراء بمشتملاتها أو ما يرتبط بها حتميا من الثقافة والمعرفة، سواء الخاصة بالنجوم والسفر وأدواته من الحيوانات وأدوات المعيشة وأسماء المواقع والأماكن والآبار وسلوك الإنسان فى الصحراء وغيرها من الأبعاد التى تمنح الصحراء حضورا جماليا يتجاوز كونها مجرد مكان أو فضاء سردى لتكون وعاء ثقافيا متكاملا أو محيطا حافلا بالإشارات والعلامات الدالة التى تجعلنا أمام سرد يتسم بالنبض والحيوية والحركة.
يرصد بهاء طاهر فضاءات مصر وبيئتها وطبيعتها عبر الزمن، وليس فى عصر معين، فيرصد البيئة الريفية والمدن المصرية القديمة فى بعض قصصه القصيرة، كما نراه يعبر عن فضاءات مصرية مثل النيل والصحراء والشواطئ والسواحل فى عصور مختلفة مثل العهد الملكى وعصر الاحتلال أو غزو مصر فى أيام الثورة العرابية ودخول الإنجليز إلى مصر عبر الإسكندرية بعد معارك شرسة. كما يرصد الأسواق والأطعمة والعادات والتقاليد المصرية فى البيع والشراء والسفر كما نرى فى تعرضه أو وصفه لسوق الحيوانات فى إمبابة على تخوم الصحراء الغربية وبداية الانفتاح على طريق السفر إلى الواحات الغربية المجهولة فى بعض قصصه القصيرة أو واحة سيوة فى رواية واحة الغروب. أو يتعرض لوصف بعض المدن المصرية القديمة وبحيرات البط والإوز وأنواع الأسماك ونمط المعيشة لدى المصريين من قديم الزمن، وهو ما يؤكد أن خطاب بهاء طاهر السردى لم يكن مركزا فقط على الخط الدرامى وينحصر فيه، ولكنه كان يشكل تاريخا كاملا ويبنى حياة برمتها وبكامل تفاصيلها ويحاول نقلها بكل أجوائها ونبضها وحيويتها، وهو ما يجعل الخطاب الروائى مسهما فى بناء الذاكرة الجماعية ويجعل منه مدونة جماعية للهوية الوطنية.
ولم يكن بهاء طاهر محصورا فى الفضاءات والأمكنة والملامح الجغرافية المشكلة للهوية المصرية فى أبعادها المادية فقط، بل نجده كذلك مشغولا بقيم الحضارة المصرية القديمة من قيم الخيال الدينى وحرية التفكير وصراع الأفكار بين الكهنة فى بعض المراحل التاريخية من مصر القديمة مثل فتنة آخناتون مثلا ويدقق فى التفاصيل وطبيعة الاختلاف الدينى الذى كان حاضرا فى تلك الحقبة، ويطرحه عبر صورة علمية تؤكد أن خطابه السردى كان يستند إلى مرجعيات علمية تعتمد على التدقيق والبحث والتحرى، ويتضح قدر علمه باللغة المصرية القديمة وعلمه بكثير من التفاصيل والمعلومات الخاصة بفنونهم وأنظمة البناء لديهم، وكذلك دلالات التماثيل والمنحوتات واختلافها من عصر لآخر من عصور مصر القديمة. وهكذا يكون قد جمع فى عكسه للهوية المصرية بين الأبعاد المادية والأبعاد الروحية أو الغنوصية أو القيم والمعانى التى ارتكزت عليها الحضارة المصرية القديمة، مثل قيم العدالة والخيال والحرية والفكر وتكامل السلطة وتداخلها دينيا وسياسيا. وقيم العمل والنظافة والتوازن بين الاختلاف والابتكار وبين الهرطقة أو الفكر الهدام الذى يمكن أن يشكل فكرا تخريبيا. 
ومن قصصه الدالة والثرية قصة محاكمة الكاهن كاي-نن، وكذلك قصة الإسكندر الأكبر التى تأتى مندمجة فى عالم رواية «واحة الغروب» وهو جزء كان جديرا برواية قائمة بذاتها، ويدل على أثر الحضارة المصرية القديمة الواسع والعميق فى الحضارات الأخرى وبخاصة الإغريق الذى ورثوا كثيرا من قوة مصر وبخاصة فى الجوانب الفكرية، وركز على جانب مهم من شخصية الإسكندر الأكبر الذى تبنى تماما الفكر الدينى المصرى واتبع الشعائر والطقوس المصرية وافتخر بانتمائه لها. والحقيقة أن الخطاب السردى لبهاء طاهر حافل بالرموز والإشارات الدالة على الثراء وعلى تشكيل أيديولوجيا وطنية وملامح هوية مصرية عميقة تمثل ضغطا وشغلا بالنسبة للعقل الأدبى لهذا الأديب الكبير الذى كان عاشقا لمصر عبر كل عصورها، ومؤمنا بها أعمق الإيمان.