عبد الله العقيبى يكتب| صوت جيل الستينيات الهادئ

بهاء طاهر
بهاء طاهر

لا يمكن لأى قارئ للأدب العربى، يعرف تاريخ الكتابة السردية بشكل جيد وواضح،أن يتجاهل صوت كتَّاب جيل الستينيات فى مصر، ذلك لأن صوتهم الروائى شكل انعطافة قوية وحادة فى شكل الكتابة السردية، والأهم من ذلك أن صوتهم السردى جاء للمشهد الأدبى ككتلة، تحركت معها آلة النقد، وحبرت فيهم كمًا هائلًا من الدراسات النقدية.

ولعل أميز ما فى هذا الجيل هو انتباه كتَّابه لضرورة الانزياح أو التغيير اللغوى، وبطبيعة الحال هذا ما جعل التعبير عن كتلتهم بمفردة أصوات الستينيات تعبيرًا منطقيًا، لأنهم استشعروا من خلال حربهم مع الأجيال السابقة، ومعاصرتهم للهزيمة العربية الكبرى فى ٦٧، التى شكلت الصدمة الرئيسية فى تكوينهم الإنسانى والأدبى، ضرورة تغيير نمط الكتابة السردية، والبحث عن مستويات لغوية حديثة وصادمة وغير مألوفة أيضًا فى التعبير السردى العربى، وبالتالى مهد جيل الستينيات لظهور التجريب فى السرد العربى، الذى كان بمثابة الرفض للأنماط اللغوية التقليدية السابقة لهم، وقد كان من أبرز كتَّاب هذا الجيل المؤثر فى خارطة الكتابة السردية العربية، الروائى والمعلم الكبير بهاء طاهر، والذى سأحاول فى السطور التالية أن أتناول تجربته النوعية والفريدة.

لا أدعى معرفتى المبكرة بتجربة بهاء طاهر الأدبية، كأحد أهم وأبرز كتَّاب جيل الستينيات، فقد كنت قبل تعرفى عليها، قد تعرفت على تجارب أدباء آخرين، من بينهم الرائد والمنظر الكبير إدوار الخراط صاحب الحساسية الجديدة، والمُجرب الهام صنع الله إبراهيم، والقامة الباسقة جمال الغيطانى، والفنان المبهر إبراهيم أصلان، وغيرهم ممن كانت تجاربهم أكثر سطوعًا فى المشهد الأدبى المصرى -على الأقل فى فترة تعرفى شخصيًا على كتَّاب هذا الجيل- ثم حين بدأ يخبوا هذا السطوع بدأت فى اكتشاف الآخرين، الذين كان من بينهم محمد البساطى، وسعيد الكفراوى، وبطبيعة الحال الجميل بهاء طاهر، الذى أعترف باكتشافى المُخجل لتجربته، أقول مُخجل لأنه تأخر أكثر من اللازم، لكنه بلا شك كان بالنسبة لى مفتاحًا هامًا من مفاتيح قراءتى لأجيال لاحقة، ليس على المستوى المصرى فقط، بل على المستوى العربى أيضًا.

لا أدرى كيف وصلت مجموعته «بالأمس حلمت بك» إلىَّ، الآن وبعد مرور كل هذا الوقت، أقول إن هذا التعارف هو الأمثل بالنسبة لى، فرغم محبتى لجل أعمال بهاء طاهر الروائية، والقصصية أيضًا، إلا أن هذه المجموعة بالنسبة لى هى درة الرجل، وأعتبرها عملاً أستطيع من خلاله العودة إلى أى من أعماله الأخرى، التى يتوزع صوته فيها، فهذه المجموعة سمعت من خلالها صوت بهاء طاهر شديد الهدوء، والوحدة كذلك، الصوت الحكيم الذى يعرف الكثير، لكن ليس لديه الجهد ولا الطاقة لقوله كله دفعة واحدة، مرة بسبب المسؤولية المضاعفة لديه، وأخرى بسبب التصوف، وتقديم مقام الصمت على مقام الكلام، وهذا فى ظنى انعكس على إنتاجه القليل نسبيًا، ستة نصوص روائية، وخمس مجموعات قصصية.

ومن يلاحظ هذا المبدأ التقليلى فى إنتاج بهاء طاهر، الذى عاش حتى اقترب من التسعين، سيصدق ما ردده فى أكثر من لقاء، وكتبه غير مرة آخرون نقلًا عنه، أن الرجل لا يعترف بالكتابة إلا من خلال مقدار المحذوف منها، لدرجة أن مسودة روايته القصيرة نسبيًا«قالت ضحى» تتجاوز حجم رواية «الحرب والسلام»لتولستوى، كما أورد الكاتب إبراهيم عبدالمجيد فى تقرير عن بهاء طاهر بعد وفاته، إنه عرف أهمية الإيجاز من خلال قراءة أعماله، وهذه الملاحظة لو جاءت فى سياق التعريف بقريض أحد الشعراء، لتفهمناه تمامًا، لكن أن يكون فى مادة كاتب وسارد بارع كبهاء طاهر فالأمر يحتاج إلى التوقف والسؤال، وأنا أحيل ذلك الاقتصاد اللغوى فى الأساس إلى إخلاصه العظيم لما هو عليه ككائن يميل بطبعه إلى الزهد والوحدة.

ولو ذهبنا نتأمل تجربة بهاء طاهر الروائية فى كليتها، سنلاحظها تجربة متأنية للغاية، وهى فى الوقت نفسه تميل إلى فكرة وجوده الشخصى، فشخصياته القصصية والروائية فيها ذلك الميل إلى التعبير عن تفاصيل وتنقلات حياة كاتبها، وإن كان هناك من يتهم بهاء طاهر بتمثيل ذاته من خلال شخصياته الروائية، أو العكس، فإن ذلك مبدأ أصيل فى الكتابة الروائية، يعبر عنه مفهوم التخييل الذاتى خير تعبير، الذى برز فيه مارسيل بروست فى زمنه المفقود، وغيره من الكتًّاب الغربيين والعرب على السواء، لكن بهاء طاهر ولأسباب لها علاقة برؤيته الإبداعية كان شديد التميز فى هذه المسألة، لذلك لا يستطيع القارئ لأعماله الروائية أن يميز بشكل دقيق أين يكون هذا التقاطع بين الشخصية الروائية وحياة الكاتب، كما أن لديه أعمالًا ينتفى فيها هذا الملمح تمامًا، مثل رائعته «واحة الغروب».

الغريب، ورغم اقتصاد بهاء طاهر فى مشروعه الكتابى، وشخصيته المسؤولة تمامًا، إلا أنه كان شديد القرب والتواضع مع الأجيال اللاحقة، ليس من الكتًّاب المصريين فى محيطه الجغرافى، بل فى جميع أنحاء الوطن العربى، فقد كان حاضرًا فى معظم المحافل العربية التى تهتم بالكتابة السردية، وكان سخيًا للغاية مع الشباب منهم، ما يجعلنا نقف عند هذا الحضور والانتباه الأبوى بشىء من الاعتزاز والفخر به، فخلافًا لكثير من كتًّاب جيله، كان منفتحًا على تجارب الآخرين، ربما بهدف التحفيز والاحتكاك الصحى والجميل، وهذا يدل على إنسانيته العالية، وروحه المعطاءة، فلم يكن رحمه الله انعزاليًا متعاليًا، بل كان حاضرًا وشغوفًا حتى آخر حياته، ولو تابعنا ردود الأفعال التى تلت وفاته سنجدها تثبت له تلك الإنسانية التى تخطت حدود المحلية المصرية، لتصل إلى جميع الدول العربية من الخليج إلى المحيط.

أما عن مشاركته السياسية، فقد تكبد منها الويلات، ورغم أنه لم يكن عاملًا فى الحقل السياسى، إلا أن ثقله الأدبى جعل من آرائه السياسية محل اهتمام الوسط الثقافى، وبالتالى انقسم الوسط حول آرائه السياسية بين مؤيد لها ومعترض، ولعل هذا الأمر كان طبيعيًا، أعنى الانقسام، فيبدو أن بهاء طاهر وبالأخص بعد الثورة كان حاضرًا بثقله فى معظم التحولات السياسية، فمن الطبيعى أن تنقسم الآراء حول هذا النوع من الحضور، لكن فى هذه اللحظة التى يغيب فيها صوته السياسى، لا يبقى لنا إلا النظر فى تجربته الإبداعية، التى كانت وستظل تجربة نوعية، مرت باختبار اللحظة الحية التى كان يتشكك فى مصداقيتها، بينما ننظر لها اليوم من خلال الشق الثانى من الاختبار، وهو اختبار الزمن، الناقد الحقيقى، الذى يعرف الجميع اليوم مدى إنصافه لتجربة صاحب «قالت ضحى» و«خالتى صفية والدير» و«الحب فى المنفى»، وغيرها من الأعمال الروائية والقصصية أيضًا.