محمد علاء الدين يكتب| تدريبات الصبر

محمد علاء الدين
محمد علاء الدين

فى يوم من الأيام حادثنى صنع الله إبراهيم وقال:
«واد يا علاء، عمك بهاء قرا روايتك ومعجب بيها جدا وعايز يشوفك، خد نمرته وكلمه».
كانت «إنجيل آدم» -روايتى الأولى- قد نُشرت لتقابَل بترحيب طيب للغاية، وكنت سعيدا وممتنا بهذه الدعوة. 
بالفعل، حادثت بهاء طاهر ودعانى إلى بيته، لتبدأ صداقة وثيقة ومتينة، نادانى فيها بأخيه الأصغر، ولم يكن التقدير من ناحيتى أقل. حدث واقترح بهاء استضافتى فى صالون الدكتور محمد أبو الغار لمناقشة الرواية، بحضور صنع الله وإبراهيم عبد المجيد، وأخجلنى بما قال. حدث وأن تحدث بالخير عن العبد لله فى حوار أو اثنين، أشارت لهما هند صبرى عندما تقابلنا ذات مرة، باعتبارها مهتمة بالأدب والقراءة، وباعتبارى «هو ده شعبان اللى بيقولوا عليه».
قصصت عليه حكاية قديمة، بطلها ياسر حماية، صحفى، وصديق عزيز من أصدقاء الطفولة، بأن رئيس تحريره محمد موسى (واحد من صناع أهم تجارب الصحافة الشبابية فى نهاية التسعينيات ومطلع الألفينيات، ووالد مروان موسى الذى رأيناه يلعب كطفل فى مقر المجلة) قد نصحه بكتابة «قالت ضحى» صفحة بعد صفحة، ليدرب نفسه على فن الكتابة بوضوح وجمال واختصار. سمعنى وضحك ضحكته المشهورة التى تطابق ضحكة نجم كوميدى شهير. تلك الضحكة التى يبدو وكأن صاحبها يجاهد للسيطرة عليها بعدما هزمته.
وحدث وصرنا جيراناً. كان يحادثنى فى الصباح أو فى المساء ويسألنى سؤاله المعتاد «فى البيت ولا فى الغيط؟» ننزل ونتقابل يوميا تقريبا فى قهوة «السد العالى» إلى أن أغلقت، فانتقلنا إلى «الخيام»، نحن وعامل (النصبة) الذى وثقنا فيه، وبالطبع كانت لنا فقرة ثابتة فى «ديوان» عند منضدته المفضلة، لينضم إلينا فى أحيان الراحلان الكبيران محمود سلطان ويحيى تادرس وصديقتنا الغالية إنجى الحكيم وابنته يسر، بهاءة كما اعتاد تسميتها نظراً لتشابههما الشديد، بينما ينضم إلينا -أو ننضم إليهم- فى فقرة المقاهى عبدالله السناوى ويحيى قلاش وجمال فهمى متعهم الله بالصحة والعافية لننخرط فى أحاديث لا تنتهى فى السياسة.
وفى «ديوان» اجتمعنا مرة أخرى بعد ندوة أبو الغار فى الاحتفال بإطلاق رواية صنع الله البديعة «التلصص»، لنضحك معا. كان بهاء يحب صنع الله، وكان هذا واضحا كعادة بهاء، لا يستطيع إخفاء المحبة ولا الزعل مهما حاول، يمكنك معرفة ذلك دون مجهود تقريبا، وبالطبع كان كثيرا ما يُترجم هذه المحبة إلى مشاكسة، يكفى فقط أن ترى كيف كان يعابث زوجته ستيفكا، وهى سيدة عظيمة ومُحبَّة له بقدر لا يوصف. «يا أخى صنع الله كل ما اكلمه واقوله مصدع يقولى عندك اكتئاب، بطنى وجعانى يقولى اكتئاب، بكح يقولى اكتئاب!». «طب ما يمكن عندك اكتئاب!» أرد أنا، فيضحك ضحكته إياها مرة أخرى.
وعندما نكون وحيديْن، سواء فى القهوة مُطلَّيْن على الشارع أو فى «ديوان»، ورغم الانهماك فى حديث السياسة والأدب وحكايات الأدباء والفن والحال والأحوال، وتعبر بنا فتاة لها جمال ملحوظ، كنا نقول لبعضنا -فى تقليد استنه بهاء- كلمة واحدة: موافق.
وذات صباح تقابلنا كالعادة فى «ديوان» بعدما حادثنى وقال إنه يريدنى فى خطب ما، لأجده يقول لى: «دعنا نجد ورقة وقلما». لم أفهم. وجدته يملى علىَّ وصيته الأدبية. كان يستعد لعملية جراحية قد يكون لها مضاعفات لا يأمنها. كتبت ما قال لى، وعبر هذه السنوات كان بهاء وستيفكا خير من ساندوا العبد لله وشريكة حياتى السابقة ثم زوجتى الحالية. كان منزلهما منزلنا ولم يدخرا وسعا ولا جهدا لنا. أحادث ستيفكا حتى الآن بين حين وآخر لأطمئن على أحوالها، وفى كل مرة تقول لى كم تفتقد بهاء.
باعدت بيننا السياسة قليلا، لم نكن طرفى نقيض، لم نختلف فى التشخيص أو العلاج فى البداية، ولكننا اختلفنا فى فترة لاحقة. وحتى مع هذا الخلاف المستحكم لم يضن علىَّ بنصائحه وقلقه. ظللنا على اتصال حتى بعد عزلته القصيرة قبل وفاته، نتحدث سريعا وهو يقول لى: «انت جاى امتى؟ واحشنى يا أخى» وبالفعل كنت أزوره عندما أعود. كنت أقسِّم وقتى ما بين برلين والقاهرة أيامها. فى مرة سألتنى يسر قبل سفرٍ جديد عن موعد عودتى، ليقول بهاء وهو ينظر إلىَّ: «مش ح يرجع». كانت سورة أخرى من سورات قلقه المبررة، كانت يسر ذاتها تشاكسنى -بهاءة فعلا- ونحن جالسان على القهوة قبلها بسنوات: «أنت شكلك حابب تتحبس!» وعندما أسافر، كان يسألنى سؤاله الأول وبذات العاطفة. حادثنى قبل هذه العزلة عن مشروع رواية جديدة كان يكتبها، كل ما قاله لى هو أنه قد كتب جزءا منها، لا شك بقلمه الرصاص الذى يفضله فى الكتابة الأولى، ولكننى لا أعرف مصير هذا الجزء، وربما حان الوقت الآن لسؤال ابنتيه يسر ودينا عنه.
فى يوم من الأيام أرسل لى خطابا إلكترونيا من معجب أوروبى ما -رئيس ناد للكتاب أو ما شابه- مليئا بالتهويمات والتعالم المتثاقف عن عقدة أوديب والمركب الصناعى العسكرى وأسنان التبدى اللبنية بعنوان (كلاب القلب)، كنت فى بريطانيا ساعتها، فكتبت له مذكرا بأغنية (عيون القلب) وأن الرجل يعلم عن اشتراكيته وميله اليسارى فقرر إبهاره بتنظير غير مفهوم على خلفية الأهازيج التى تدعو للنضال والعمل، ثم سألته عن رحلة مرتقبة لبراج، فرد علىَّ: «ربنا يهدك ويهده ويهد أوديب وفرويد وماركس فى وقت واحد. براغ فى شهر حزيران لو عشت وعرفت اخلص تدريبات الصبر من هنا لهناك، بهاء». 
بالطبع لم يفتنى أن أمزح بخصوص (براغ) و(حزيران)، ولكن تعبير مثل (تدريبات الصبر) كان لا يمكن تجاهل بلاغته. ربما كانت حياتنا كلها تدريبا لا ينتهى على الصبر، ومن ضمنها الصبر على فراقه.