كُتب على صفحة واحدة: مصحف الملك فاروق الفريد

كوكب الشرق «أم كلثوم» مع الفنان «محمد إبراهيم»
كوكب الشرق «أم كلثوم» مع الفنان «محمد إبراهيم»

حظيت المصاحف الشريفة بعناية كبيرة من قبل الخطاطين والمزخرفين إجلالاً لكتاب الله عز وجل؛ لهذا بذلوا أكبر جهد فى تصميم صفحات المصحف وكتابته بأحجام مختلفة، مع زخارف نباتية وهندسية وتوظيفها فى مساحات مختلفة وموزعة بشكل هندسى منظم، كذلك اختيار أجمل الخطوط العربية لإضافة رونق جمالى للمصحف الشريف؛ هذا التقدم الذى استحدثه الفنان المسلم ذو أثر بالغ فى عملية الإبداع الفنى لخدمة كتاب الله الكريم.

وانتشرت طوال تاريخ الفن الإسلامى، صور مختلفة لنسخ المصحف الشريف، لكن يبقى «المصحف الدقيق»، أو «المصحف المنسوخ بالخط الغبارى»، تمثل غاية التميز الفنى للنساخ والخطاط المسلم، وسُمِّى هذا النوع من الكتابة الدقيقة بالخط «الغباري» حيث لا تُرى فى الغالب بالعين المجردة؛ لأنه يشبه ذرَّات الغبار، وقد عُرف هذا النوع من الكتابة فى التراث العربى لدى مجموعة من الخطاطين، كما عُرف فى المراسلات السياسية المشفَّرة التى يطيِّرونها بالحمام الزاجل؛ وقد تنوّعت أشكال الكتابة فى التراث كالكتابة على حبات الأرز والقمح، وعلى البيض، وعلى قطعة صغيرة جداً من الورق.

اقرأ أيضاً | محمد بغدادي..غاب القمر عن "شبابيك" الشعـر والغناء

ومن أشهر الخطاطين المصريين الذين كتبوا المصحف على صفحة واحدة، الأستاذ محمد إبراهيم السكندرى، والأستاذ سيد عبدالقادر، والمهندس عبدالرحمن محمد عبدالرحمن. لكن يعتبر المصحف الذى كتبه الأستاذ محمد إبراهيم واحدا من أهم تلك المصاحف الذى ذاعت شهرته كثيرًا.



ويعتبر الأستاذ محمد إبراهيم (2 سبتمبر 1909م- 13 مايو 1970م)، واحدًا من أهم الخطاطين المصريين، وهو واحد من أهم رواد الخط العربى فى مصر والعالم العربى، وأستاذ الخط العربى بكلية الفنون الجميلة، ومؤسس أول مدرسة للخطوط بمدينة الإسكندرية فى نوفمبر عام 1936، وقد اشتهر بأنه أول خطاط يكتب القرآن الكريم كاملا فى صفحة واحدة.

حاول الأستاذ محمد إبراهيم كتابة القرآن الكريم كاملاً على صفحة واحدة بيده ثلاث مرات خلال فترة حياته، إلا أن التجربة الثالثة هى التى نجح فيها، بينما لم يجز الأزهر الشريف النسختين الأخريين لوجود أخطاء بهما.

وقد اختار الأستاذ محمد إبراهيم أن يكتب جميع لوحاته اللوحة بالخط الفارسى «الغبارى» تحديدًا، حتى تتناسب فيه فكرة تركيب وبناء الكلمات فى أقل مساحة ممكنة، وقد كتبها بالسن المعدنى الدقيق، ويحيط باللوحة إطار زخرفى نباتى بسيط يناسب طبيعة الخط المدونة به، وفى النسخة المطبوعة تم وضع إطار هندسى، وقد وقع الخطاط محمد إبراهيم اللوحة بتاريخ الأحد 24 جمادى الأولى 1364هـ، والموافق 6 مايو 1945 ميلادية.

وفى هذه النسخة المطبوعة كتب محمد إبراهيم بالخط الفارسى، عبارات إهدائه التالية: «بعناية الله وفى حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول ملك مصر والسودان ابن الملك فؤاد الأول بن الخديوى إسماعيل بن إبراهيم الفاتح بن محمد على الكبير رأس الأسرة العلوية المالكة كُتب هذا القرآن الشريف للمرة الثالثة على هذا الوضع.. الأستاذ محمد إبراهيم مؤمن مدير مدرسة تحسين الخطوط بمدينة الإسكندرية، استغرق كتابته وزخرفته 6 أشهر وقدم فى عام 1367هـ - 1948م».

وقد قدم الفنان محمد إبراهيم مجموعة كبيرة من الأعمال الخطية المميزة والتى كتبها بمختلف أنواع الخطوط، وهى تتنوع بين لوحات وجداريات وعناوين لمؤلفات منشورة بخلاف أعماله التجارية. وتحتفظ مكتبة الإسكندرية ومتحف الخط العربى بالإسكندرية بعدد من تلك الأعمال الخطية، ومن أشهر أعماله كتابته لقاعة ومسجد مبنى جامعة الدول العربية، وجامع بورقيبة الحنفى بالمنستير فى تونس، ولوحته الشهيرة التى تحتوى القرآن الكريم كاملا فى صفحة واحدة، والتى كتبها ثلاث مرات، وكتابته للأعمال الخطية فى متاحف مصطفى كامل، محمد فريد، أحمد عرابى.. هذا بالإضافة إلى نشره لكراسة تعليمية بخطى الديوانى والجلى ديوانى بعنوان «المجموعة الفاروقية»، وكتاب بعنوان «الخط العربى.. سر تأخره فى مصر والدول العربية، وطرق العلاج».

وقد كان الفنان محمد إبراهيم حريصاً أشد الحرص على الالتزام بأصول الخط العربى وقواعده، وكان لا يسمح بأى حال من الأحوال باستعمال الخط العربى إلا على القواعد الأصلية، وكان دؤوبًا فى سبيل الارتقاء به، فأبدع فيه أيما إبداع، وأخرج لوحات رائعة، لها طابع متميز من الجمال والقوة والأصالة، مما لفت إليه الأنظار، ليس فى مصر وحدها ولكن فى كثير من البلدان العربية والإسلامية، وأصبح واحدًا من جيل الرواد المعاصرين لعمالقة النهضة الحديثة الذين تغذوا بالقيم الأصيلة التى كان يتنسم عبيرها ويمشى على هداها.

وكان الفنان محمد إبراهيم شديد الحرص على المحافظة على التراث، فكان يقتنى مئات القطع الأصلية المكتوبة بين كبار أئمة الخط العربى أمثال عبد الله الزهدى، والشيخ عبد العزيز الرفاعى، وأحمد الكامل وغيرهم.