دروس لحفيدة الشيخ الطاهر والحاجة حفيظة .. عن آداب «السُفرة» وأهمية الورد وحب مصر والنحو والقضية الفلسطينية:

بهاء طاهر
بهاء طاهر

دينا بهاء طاهر

عندما طلب منى أن أكتب شهادة عن والدى جزعت، فمن أكون حتى أكتب عن بهاء طاهر؟ ثم إن شهادتى مجروحة لا محالة فهو أبى الذى أحب وهو بالنسبة لى أعظم روائى وأشجع كاتب وهو المثقف ذو الضمير الحى والأب الكريم جداً طول الوقت. أكاد أسمعه ينادينى دينا حبيبة بابا. كيف لى أن أصف شعور الفقد الذى أحاطنى برحيله ويحيطنى وأختى كل يوم، بل كل ساعة من نهار، هو الذى ملأ علينا الدنيا ولما راح فضيت!

بابا كان جميلاً بكل ما تحمل الكلمة من معنى.. وكان يحب الجمال؛ فشراء الورد لا يقل أهمية عن شراء لوازم البيت الضرورية. البيت يجب أن يكون مرتباً ورائحته زكية وهناك قواعد للسفرة، فلا يصح أن نجتمع للأكل وإحدانا لابسة بيجامة. كان يصرُّ أن نكون بكامل هيئتنا على السفرة ولم يستجب أبدًا لاعتراضاتنا بأننا «نعسانين» وسوف ننام بعد العشاء مباشرة! السفرة لها أدب وأعتقد أن عمتى سلمى الله يرحمها كانت السبب فى هذا التمسك بالأصول فقد كان يحكى لنا كيف كانت شديدة الصرامة وهى تعلمه أصول الأكل بالشوكة والسكينة، هى أخته المقرَّبة إلى قلبه وكل اللى تقول عليه أكيد صح! رأيته فى آخر أيامها مرابطاً معها فى المستشفى يأبى أن تأكل إلا من يديه وعلامات الحزن الشديد والرعب فى عينيه عندما أصبح جلياً أنها راحلة!
لا أعرف ما الذى يمكن أن أحكيه عن بابا. كان كريماً ومحباً ومن الصعب إرضاؤه فكان لا يفرح بدرجاتنا العالية فى المدرسة أو بتفوقى فى مسابقة للموسيقى. كان يطلب أو بالأحرى يطالب بالمزيد: القراءة والإلمام بالشأن العام وإتقان اللغات وحضور المسرحيات والندوات المملة جداً، والتى أدمناها فيما بعد أنا ويسر. كنا نشتكى من إصراره على فرض كتب بعينها نقرؤها وكنت أقول له أنى أحب قراءة الألغاز ثم إنى فى الإجازة وليس مهماً أن أقرأ أصلاً. كان من جراء هذا الإصرار أننى لا أستطيع الخروج من المنزل الآن بدون كتاب خشية أن تكون هناك فرصة للقراءة التى أضحت من أحب المتع إلى قلبى إن لم تكن أحبها على الإطلاق.

وبعدين حب مصر!!! حب مصر اللامحدود والوطنية المبالغ فيها لأنها مبنية على صورة رومانسية غير واقعية بالمرة مستمدة من الأغانى والأفلام؛ والاجتهاد، والاتحاد، والعمل!!! وطبعا أحببت عبد الناصر من فرط حبه له وإيمانه بأن عبد الناصر له الفضل فى السعى وراء الاستقلال الوطنى والوحدة العربية والإفريقية والتضامن مع كل شعوب العالم الثالث وأن مصر لا تنحاز وأن باندونج تحقيق لفكرة مصرية أصيلة وأن مصر أم الدنيا بمعنى جميل وغير متعال فهى أخت العرب والأفارقة وساهمت بثقافتها فى كل الدنيا بكل تواضع ومصر بنت أصول بحضارتها القديمة وتحتضن كل البشر دون أن تفرق بينهم! 

مرة كنت راجعة من المدرسة وقاعدة معه هو وماما على السفرة فحكيت لهما عن نكتة سمعتها فى المدرسة. لا أنسى تغير وجهيهما والمحاضرة التى تلت، أن النكت عن الناس المختلفين سواء لأنهم مسيحيون أو صعايدة أو من بلد ثان هى صور فجة من العنصرية و«إن احنا ناس مثقفة» ولا يصح أن نردد مثل هذه الأشياء البغيضة. حاولت أن أشرح وأبرر، ولكننى وعيت الدرس وأظن أننى فهمت من سن صغيرة ما حرصا على زرعه، حب البشر كلهم واحترام إنسانيتهم مهما اختلفنا. 

أما عن حب واحترام اللغة العربية فحدِّث ولا حرج، والحقيقة إننا أنا ويسر كنا محاصرتيْن، فمن ناحية ماما توبخ من يخطئ فى الإعراب توبيخاً شديداً، فلو سمعتك ترفع اسماً بعد حرف جر قالت بصوتها المنفعل: «فى» تجر شارع بحاله!!! أما بابا فكان يصحح الخطأ وينظر لك بعتاب شديد، كما لو كان يقول كيف تخطئ فى العربى مش عيب كدة؟! فكنا نتأنى فى القراءة ونحاول أن نعرب الكلمات بسرعة حتى لا نخطئ فى التشكيل ونتعرض لتقريظ بائخ.

لا أعرف إن كان يتمنى أن أكون ولداً، فلم يشعرنى قط بذلك، ولكنه كان يعاملنى دائماً على أننى جدعة، فكان يكلفنى بمهام كثيرة كنت أتذمر منها كلها خصوصاً عندما يتطلب الأمر التعامل مع مكتب حكومى وما يترتب على ذلك من لطعة لانهائية. تعلمت أن آخذ معى كتاباً أو اثنين وأن أستسلم ولا أحاول مَنطَقة الأمور حتى تنقضى المصلحة. أتأمل اليوم كم كانت مفيدة هذه التجارب وأن الاعتماد على النفس نعمة عظيمة!

حقق لى أمنية كنت قد طلبتها من جد أولادى د. عبد الوهاب المسيرى أو هابو كما كنا نحب أن نناديه فقد كان يذكر نديم ابنى فى قصصه للأطفال ولم يضف أدهم لقائمة أبطاله: نور وياسر ونديم والجمل ظريف. كان نديم هو الحفيد الأول فى عائلتينا وطبعا حظى بمكانة خاصة جداً، حتى أن حماتى كانت تقول إن نديم يكبر بالحب. لم يسعف الوقت هابو؛ فكتب بابا قصة قصيرة عن أدهم، صحيح أنه غيَّر اسمه لأحمد، ولكن القصة حقيقية فأدهم هو الذى أطلق عليه لقب جاجا، اللقب الذى تحول إلى اسم نناديه به جميعاً!

علمنى أبى أهمية الكرم بالوقت والمال والمشاعر، كان حريصاً على أداء الزكاة فى موعدها وكان يصحبنى معه دائماً. عرفت أهمية د. محمد غنيم وأنه لا بد من المساهمة فى مستشفى المنصورة التى أسسها، وكان التبرع لمركز الكلى ومستشفى مجدى يعقوب بأسوان من الثوابت كأنه يساهم فى علاج ولاد بلده فى الدلتا والصعيد. كان سريع التبرع بكل جائزة يحصل عليها وكأنه يرفض التكسب من الكتابة؛ وكان يرعى الكتَّاب الشبان لأنه كان مؤمناً بدور المثقف المهم فى المجتمع كما أشار فى كتابه «أبناء رفاعة». 

نصحنى مرة بعدم قبول أى هدية لا أستطيع ردها وكان يقول: «أى شىء مبالغ فيه سيئ»، فجملته الشهيرة لنا أن المبالغة فى أى حاجة غير مستحبة! وكلمته الأكثر شهرة والتى كان يرددها دائما أن الحياة صعبة! وكم كان محقاً!

غرس أبى فىَّ منذ الطفولة الإيمان بالقضية الفلسطينية وبحق الشعب الفلسطينى وبأن النضال من أجل تحرير فلسطين واجب. خرجنا معاً فى مظاهرة ضد إسرائيل فى جنيف، حيث كان محرماً علينا ارتياد فندق مشهور لأنه يدعم إسرائيل، كما لم يكن مسموحاً شراء بضائع لأى شركة تدعم إسرائيل. أبى من جيل الستينيات الذين رفضوا التطبيع ورأيت بعينىَّ كيف قاطع صديق عمره لأنه قبل التطبيع مع العدو. علمنى أبى أن الكلمة مسئولية وأن أى إنسان محترم يجب أن يتحرَّى الصدق فى القول والعمل وأن الغش بغيض ولا يجوز فى أى حال وبأى شكل وأن الاجتهاد ليس اختياراً وأننى حفيدة الشيخ الطاهر والحاجة حفيظة ولى أن أفتخر لأنهم كانوا أناساً طيبين.