كان يصفها بحفيدة فِكر رفاعة: يُسر بهاء طاهر: أين منى مجلسٌ أنت به؟

يُسر بهاء طاهر
يُسر بهاء طاهر

عندما تلتقى بُيسر بهاء طاهر يلفت انتباهك من الوهلة الأولى الشبه الهائل بينها وبين أبيها؛ الملامح الدقيقة، والابتسامة الهادئة، والميل إلى الصمت أكثر من الكلام. هى التى كوُنت صورتها عن الرجل، وعن الإنسان بشكل عام، من خلال علاقتها به، ومراقبتها له، ومشاركته فى المجالس والأحاديث، فلم يكن بهاء طاهر يتعامل مع أحدٍ على اعتبار أنه الكاتب الفلْتة، أو الشخص الذى لم تأتِ الحياة بمثله، فقد كان حقيقيًا وطبيعيًا مع الجميع على حدٍ سواء، حتى أنها رفضت أن تصفه بالبسيط والمتواضع، لأن هذا يعنى أنه يرى نفسه أعلى من الناس، وأن عليه أن ينزل إليهم، فالبسيط متى عرف أنه بسيط لم يعد بسيطًا. 

تقول يُسر: «تخيلتُ لوقتٍ طويل أن الإنسان يجب أن يكون ذلك؛ حقيقيًا وطبيعيًا ويفعل ما يحبه فقط، لكننى اكتشفتُ لاحقًا أن هناك من يعطى لنفسه مكانة أكبر مما يستحقها، خاصة محدودى الموهبة، فعندما كان يوقفه أحدٌ فى الشارع ليُسلّم عليه، كان أبى يظن أنه يعرفه ويجتهد فى تذكر اسمه. هذه كانت قناعته أنه شخص عادى، وأن الناس يُسلمون عليه لأنهم يحبونه، لا لأنه كاتب، أو مشهور».
يوم الوفاة فوجئت يُسر بحالة المحبة التى أحاطتها هى وعائلتها من الناس، فقد توقعت أن أحدًا لن يذكره، لأنه لم يكن يخرج من البيت فى سنواته الأخيرة. توفى بهاء فى المساء، فسهرت جوار جثمانه هى وأختها دينا وزوجته ستيفكا وبنات أخيه، تحكى أنها اضطرت فى صبيحة اليوم التالى إلى الخروج فى السادسة صباحًا لتشترى شيئًا، لتجد الناس بداية من بائعى الجرائد وحارسى العقارات المجاورة وسائق التاكسى الذى كان يركب معه وعمال الصيدلية ومالك المقهى، قد عرفوا الخبر وينتظرونها تحت البيت ليعزُّوها، ويروا إذا كانت بحاجة لشىء، وكان وقع ذلك مؤثرًا عليها فأجهشت بالبكاء. 
لم يختلف الوضع أيضًا فى الجنازة، فقد كان هناك ما أسمته بمظاهرة حب، حتى أنها رأت أن هناك من يجب أن تعزيهم لا أن تتلقى منهم العزاء، مثل عبد الله السناوى وجمال فهمى والسفير محمد توفيق وسيد محمود ومحمد علاء، وكثيرين غيرهم. فقد كان بهاء طاهر شخصًا استثنائيًا إذ استطاع أن يلمس قلب كل من يعرفه.
فى «أنا الملك جئت» يقول بهاء طاهر: «ولما المرأة ذهبت، ولما تفرق الذين اجتمعوا حولى، ولما وجدت نفسى وحيدًا، اكتملت فى تمامى. ولما كنت أنت إلهى وأنا صفيك، أنت النور وأنا صدى النور، أتملى فى ذاتى فأراك، وأتملى فيك فأرانى.. فإنى بعيد عن الآحاد، جئت لنكون واحدًا أنا وأنت. الآن، ولم يبق وقت وبقى الأبد، الآن أناجيك فتعرفنى, أدون سرى بعيدًا عن الأعين، لعينك أنت فتعرفنى.. أتطلع إلى قرصك اللامع، الذى يرقب من السماء كل شىء، وأنقش على الصخر سرى: إنى حزين».

ترى يُسر أن هذا المقطع يعبر عنها، كما لو أنه كتبه على لسانها. أيضًا الجملة الشعرية «أين منى مجلس أنت به» التى جاءت فى أغنية الأطلال لأم كلثوم، فكلما مرت على مقهى «رباعيات الخيام» فى الزمالك ومكتبة «ديوان» تشعر أنه لا يزال موجودًا، فقد كان يعطى لأى مجلس ثقلًا، رغم قلة كلامه، فإنه حين يتحدث كان الجميع ينصت له.

كان بهاء طاهر يعتبر يُسر شريكته فى كتابة رواية «واحة الغروب»، فقد كان يتصل بها بعد كل فصل يكتبه، فتذهب إليه ليقرأه لها بصوته العذب، وتقول له رأيها، وتستعجله فى أن يحكى لها بقية الأحداث قبل أن يكتبها، فيرد عليها مازحًا: «الرواية ما بتشتغلش كدا». وقد جاء فى إهدائه الخاص لها لـ«واحة الغروب»: «إلى يسر الحبيبة/ يسرى وشريكتى فى كتابة هذه الرواية/ حفظها الله ويسرنا كتابات أخرى معًا/ وجعل أيامها شروقًا ونورًا دائمًا.. 14- 11-2006». أما فى إهدائه لها لرواية «نقطة النور» فقال: «إلى حبيبة قلبى.. أول من قرأ هذه الرواية وشجعنى على نشرها.. إلى يسورة القمورة ربنا يحميها.. بابا بهاء.. 18-1-2001»، وفى إهداء كتاب «أبناء رفاعة» قال: «إلى يسر حفيدة فكر رفاعة وحبيبة بابا.. اللى هتكمل المشوار إن شاء الله لغاية ما نوصل لأجمل مصر.. القاهرة فى أجمل يوم 17-5-2011».

تقول يُسر إنه كان مهمومًا طيلة الوقت بالثقافة، وأهميتها فى تشكيل وعى الناس، وفى إنقاذ الدولة من الوقوع فى براثن التطرف، وأكبر دليل على ذلك أنه بمجرد أن كسب قضية الأرض فى الأقصر، اتصل بها ليأخذ رأيها فى رغبته فى التبرع بالأرض للدولة، لأن الأقصر ليس بها قصر للثقافة، فأخبرته بأن هذا شأنه الخاص وأن له الحق الكامل فى التصرف فى أرضه. تضيف: «لم يكن من هواة التملك، أو جمع المال، لقد كان فقط يهتم بمظهره وبأن يعيش حياة هانئة.. الأمر نفسه ينطبق على علاقته بالكتابة، فلم يكن مهتمًا بأرقام التوزيع أو بالجوائز أو بأن يصير مشهورًا، كان يفرق معه فقط أن يأتى إليه أحدٌ ويخبره عن رأيه فى أحد أعماله، لهذا كان فرحًا جدًا بحصوله على جائزة الزياتور الإيطالية عن رواية «الحب فى المنفى» عام 2008 لأنها كانت آتية من الجمهور». 

لا أحد يتوقع أن بهاء طاهر كان يدخل فى حالة من التوتر فى أثناء كتابته لعمل ما، وأن هذه الفترة تكون عصيبة على عائلته، وأنه لم يكن يتحدث عما يكتبه، فقد كان شديد الكتمان، حتى أن ابنتيه لا تعرفان إذا كان قد ترك أعمالًا غير منشورة. وعندما سألت يُسر فى نهاية حوارنا عن أقرب أعماله إلى قلبه، قالت: «لم يكن يتحدث مطلقًا عن هذا الشىء.. لكننى أظن «قالت ضحى» ربما لأنها أقرب أعماله لقلبى!».