خواطر الإمام الشعراوي .. هداية الدلالة وهداية المعونة

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 213 من سورة البقرة: «كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِى مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ».

بقوله: فالذين يحاولون فى زمان من الأزمنة أن يصبغوا الدين بشكل أو بطقوس أو بلون أو برسوم أو هيئة خاصة نقول لهم: أنتم تريدون أن تُخرجوا الإسلام عن عموميته الفطرية التى أرادها الله له، ولابد أن تقفوا عند حد الفطرة الإسلامية، ولا تلونوا الإسلام هذا التلوين.

وبذلك نحقق قول الله: «فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِى مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» ونعرف أن الهداية معناها الأمر الموصل للغاية، وحين ترد الهداية من الله سبحانه وتعالى فعلينا أن نفهم أن الهداية من الله ترد على معنيين: المعنى الأول هو الدلالة على الطريق الموصل، والمعنى الثانى هو المعونة.

وضربت من قبل المثل بشرطى المرور الذى يدلك على الطريق الموصل إلى الغاية التى تريدها، فإن احترمت كلامه ونفذته فهو يعطى لك شيئًا من المعونة، بأن يسير معك أو يوصلك إلى المكان الذى تريد. فما بالنا بالحق سبحانه وتعالى وله المثل الأعلى؟ إنه يهدى الجميع بمعنى يدلهم، فالذين آمنوا به وأحبوه يهديهم هداية أخرى، وهى أن يعينهم على ما أقاموا نفوسهم فيه.

وبعضنا يدخله العجب عندما يسمع قول الحق: «وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يتَّقُونَ» «فصلت: 17-18».

بعضنا يتعجب متسائلا: كيف يقول سبحانه: إنه هداهم، ثم استحبوا العمى على الهدى؟ ونقول: إن (هداهم) جاءت هنا بمعنى (دلّهم) لكنهم استحبوا العمى على الهدى، أما الذين استجابوا لهداية الدلالة وآمنوا فقد أعانهم الله وأنجاهم؛ لأنهم عرفوا تقواه سبحانه.

ونحن نسمع بعض الناس يقولون: ما دام الله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم فما ذنب الذى لم يهتد؟ نقول: إن الحق يهدى من شاء إلى صراط مستقيم؛ أى يبين الطريق إلى الهداية، فمن يأخذ بهداية الدلالة يزده الله بهداية المعونة وييسر له ذلك الأمر. ونحن نعلم أن الله نفى الهداية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فى آية، وأثبتها له فى آية أخرى برغم أنه فعل واحد لفاعل واحد.

قال الحق نافيا الهداية عن الرسول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّكَ لاَ تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ» «القصص: 56».

والحق يذكر للرسول صلى الله عليه وسلم الهداية فى موضع آخر فيقول له: «وَإِنَّكَ لتهدى إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» «الشورى: 52».

ومن هنا نفهم أن الهداية نوعان: هداية الدلالة، فهو (يهدي) أى يدل الناس على طريق الخير. وهناك هداية أخرى معنوية، وهى من الله ولا دخل للرسول صلى الله عليه وسلم فيها، وهى هداية المعونة.

إذن قوله تعالى: «وَإِنَّكَ لتهدى إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» معناها: أنك تدل على الصراط المستقيم، ولكن الله هو الذى يعين على هذه الهداية. «والله يَهْدِى مَن يشاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ» فعلينا أن نستحضر الآيات التى شاء الله أن يهدى فيها مؤمنا وألا يهدى آخر.

ويقول الحق سبحانه: «والله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين» «البقرة: 264».

معنى ذلك أن الله لا يهدى إلا الذين آمنوا به. وهدايته للمؤمنين تكون بمعونتهم على الاستمرار فى الهداية؛ فالكل قد جاءته هداية الدلالة ولكن الحق يختص المؤمنين بهداية المعونة.

والحق يقول فى ذلك: «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فانهار بِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين» «التوبة: 109».

إن الحق يوضح لنا المقارنة بين الذى يؤسس بنيان حياته على تقوى من الله ابتغاء الخير والجنة، وهو الذى جاءته هداية الدلالة فاتبعها، فجاءته هداية المعونة من الله.

وبين ذلك الذى يؤسس بنيان حياته على حرف واد متصدع آيل للسقوط فسقط به البنيان فى نار جهنم، إنه الذى جاءته هداية الدلالة فتجاهلها، فلم تصله هداية المعونة، ذلك هو الظالم المنافق الذى يريد السوء بالمؤمنين.

والحق تبارك وتعالى يقول: «استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذلك بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ والله لاَ يَهْدِى القوم الفاسقين» «التوبة: 80».

إن الحق يبلغ رسوله أنه مهما استغفر للمنافقين الذين يُظهرون الإسلام، ويبطنون الكفر فلن يغفر الله لهم، لماذا؟ لأن هداية الدلالة قد جاءت لهم فادعوا أنهم مؤمنون بها، ولم تصلهم هداية المعونة؛ لأنهم يكفرون بالله ورسوله، والله لا يهدى مثل هؤلاء القوم الفاسقين الخارجين بقولهم عن منهج الله.