يوميات الأخبار

بعد نصف قرن.. أيام الصدمة والرعب

أسامة عجاج
أسامة عجاج

طوال حياتى الصحفية التى تجاوزت الـ٤٥ عاما كانت أمنيتى التى لم تتحقق أن أشارك فى حرب أكتوبر، جنديًا حيث منعنى السن، أو بالتغطية الصحفية وحال بينى وبين ذلك تأخر البدايات، وأعتز بأننى اقتربت من أبطالها، فيما بعد.

ارتبط انتصار أكتوبر معى بالعديد من المحطات، الأولى تلك الأيام العصيبة التى عشتها، عندما تفتح وعيى على طعم العلقم مع نكسة ١٩٦٧، وكنت فى العاشرة من عمرى، فى السنة الخامسة من المرحلة الابتدائية، مع الوهم الذى سقط، والفرحة التى لم تتم، حول تساقط الطائرات الإسرائيلية بأعداد كبيرة، والاستعداد للوصول (بكره) إلى تل أبيب، وظهرت الحقيقة المرة، أننا نعانى من نكسة، فقدنا فيها جزءا عزيزا من أرضنا شبه جزيرة سيناء، تغيرت الأجواء بعد ست سنوات، وكنت فى الصف الثانى من المرحلة الثانوية، عندما سألنا مدرس اللغة العربية عن انطباعاتنا الأولى عن عبور القناة، وكانت مشاعرى خليط بين الفرح الممزوج بالشك والخوف، من نتائج كارثية على خلفية ما حدث فى يونيو ٦٧، لم تمر سوى ساعات قليلة، حتى أصبحنا أمام حقائق على الأرض تقول إن هناك تاريخا جديدا يتم كتابته لمصر وجيشها العظيم، فالعبور تم، وخط بارليف سقط، بعد اقتحامه، وبعدها بأعوام وفى النصف الثانى من عام ١٩٧٩، بدأت خطواتى الأولى للتخصص كمحرر عسكرى لمجلة آخر ساعة، التى أتاحت لى فرصة الاقتراب من قادة حرب أكتوبر، وإجراء حوارات معهم أو تغطية أخبار مَن تولوا مناصب أعلى منهم، المشير محمد عبدالحليم أبو غزالة، أثناء فترة عمله وزيرا للدفاع، وكان قائدا لمدفعية الجيش أثناء حرب أكتوبر، والفريق عبد رب النبى حافظ قائد الفرقة ١٦، الذى ترقى إلى أن أصبح رئيسا للأركان، وقائد الفرقة ٢١ عميد إبراهيم العرابى الذى تولى نفس المنصب واللواء نبيل شكرى عندما كان مديرًا للكلية الحربية، وكان قائدا لقوات الصاعقة أثناء حرب أكتوبر.

المفاجأة

الحديث عن هذا الحدث الفارق والاستثنائى، فى تاريخ مصر والمنطقة العربية لن ينقطع، وهناك كل سنة جديد يمكن التعرف عليه، فقد أعاد لمصر كرامتها، بعد سيمفونية نجاح، شارك فى عزفها كل أجهزة الدولة بقدر، وفى القلب منها القوات المسلحة، التى استعدت منذ صباح اليوم التالى لنكسة ١٩٦٧ للأخذ بالثأر، راجع وقائع معارك رأس العش، ومواجهات حرب الاستنزاف، واستهداف المدمرة إيلات، ولكنى سأتوقف عند بُعد مهم وهو كيف استطاعت مصر تحقيق المفاجأة أو الصدمة، ونجحت فى تعمية وخداع كل أجهزة الاستخبارات العالمية، وفى القلب منها الموساد، والمخابرات العسكرية (أمان).

وسأترك لشخوص أجنبية، ومنها قيادات إسرائيلية وأمريكية، كيف تم ذلك الأمر، فقد كشفت الوثائق الإسرائيلية، عن أن أكثر الكلمات استخدامًا خلال أيام ما بعد الحرب هى (المحادال) وهى تعنى بالعربية فساد، الإهمال الكبير، والمقصود بذلك أن إسرائيل فوجئت بالحرب نتيجة إهمال كبير، سيطر على القادة على اقتناع جازم– ثبت عكسه- أن المصريين الذين انهزموا فى الحرب، لن يجرأوا على مواجهة إسرائيل، ويكفى أنه فى الثالث من أكتوبر ١٩٧٣، اجتمع رئيس الأركان الإسرائيلى فى ذلك الوقت دافيد العزرا، مع رؤساء تحرير الصحف وطمأنهم، (لن تنشب حرب فى القريب، بإمكانكم النوم فى هدوء).

نظرية خاطئة

وعلى نفس المستوى، ادعى رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية إيلى زعيرا، فى جلسة مشاورات مع جولدا مائير، قبل الحرب بـ ٤٨ ساعة بأن لديه نسخة من خطة الحرب التى أعدها الجيش السورى، وتلخيصا للخطة التى أعدها الجيش المصرى، وحتى عندما تم رصد التحركات على الجبهتين، كان مصرا على أنهما لن يهاجما إسرائيل، وأنها مجرد استعراض للعضلات، ونتوقف عند ما قاله موشى ديان وزير الدفاع الأشهر، الذى حرص على كتابة مذكراته سريعا بعد أقل من ثلاثة أشهر من الحرب، واعترف صراحة وبمرارة شديدة، وقال بالنص (لقد اسأت فى تقدير قدرة القوات المصرية على بناء الجسور، والعبور بكفاءة خلال ساعات قليلة، للضفة الشرقية للقناة، وفقدت الأمل فى القيام بأى هجوم مضاد، لقد انتهت أسطورة التفوق الإسرائيلى، وكذلك القدرة على هزيمة العرب خلال ساعات، إنها نظرية خاطئة).

خيبة أمل

ولخص رئيس إسرائيل الأسبق حاييم هيرتزوج المسألة فى قوله (لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل الحرب، وكانت هذه مشكلة، بينما تعلم المصريون كيف يقاتلون) واختم بالرئيس الأمريكى ريتشارد نيكسون فى ذلك الوقت، الذى اعترف فى مذاكراته وقال، (إنها خيبة أمل كبيرة من المخابرات الأمريكية والإسرائيلية المتعاونة معها، والتى كنا نظن أن قدراتهم ممتازة، فقد استبعدنا خيار أن حربا ما سوف تندلع إلا قبل ساعات منها) ولعل أفضل تفسير لما جرى جاء فى ورقة قدمها أحد المؤرخين الأمريكيين ويدعى تريفور ديبوى وهو رئيس إحدى المؤسسات لتقييم المعارك للندوة العالمية عن حرب أكتوبر، التى استضافتها جامعة القاهرة عام ١٩٧٥، وقال إن (المخابرات الإسرائيلية ركزت نشاطها على النوايا المعادية، على حساب القدرات المعادية، والتى لم تكن فى الحسبان، وأدى الخطأ فى حساب القدرات العربية الى نظريات خاطئة فى النوايا العربية)، وكانت النتيجة كما ورد فى تحقيق نشر مؤخرا فى صحيفة معاريف الإسرائيلية، مؤشرا عن شعور الجنود الاسرائيليين فى تلك الأيام، وقالت (لقد ذهبوا للحرب مثل القطيع الى الذبح، وهو اتهام تم توجيهه منهم الى قادتهم، الذين وصفوهم بعدم الخبرة، والاحتراف بل الفوضى، وعدم تقدير الموقف، وأنهم لم يهتموا أو يراعوا حياتهم.

انهيار إسرائيلى

ونتوقف عند بُعد آخر، وهو (الرعب) وحجم الخسائر التى أصابت الجيش الإسرائيلى الذى لا يقهر، فإذا به يسقط كورق شجر الخريف، وأتوقف هنا عند ما قاله هنرى كيسنجر أحد اكثر اللاعبين الدوليين على الساحة الدولية، والذى شغل منصب مستشار الأمن القومى الأمريكى أثناء حرب أكتوبر، فى مقابلة مع صحيفة معاريف منذ أيام، (لقد كانت صورة المعركة مختلفة، عن تلك التى رسمها الخبراء الأمريكيون فى مخيلتهم، عندما نشر خبر الهجوم المصرى، لقد دارت كل المناقشات حول الحرب، على افتراض التفوق العسكرى لصالح إسرائيل، لقد تبين أن المصريين نجحوا فى ضرب خط بارليف، والدفع بمائة ألف جندى ونحو ٤٠٠ دبابة، ووحدات كوماندوز إلى سيناء، وبناء عدة جسور فوق قناة السويس، وفى الأيام الأولى من الحرب فقدت إسرائيل يوميا ما يقرب من ٢٠٠ قتيل، وتم أسر الكثير من جنود الصف الأول، وتعرضت طوابير المدرعات الإسرائيلية التى كانت تتقدم فى سيناء، الى هجوم جوى مصرى شديد، وفى الأيام الأولى الثلاثة من الحرب خسر سلاح الجو الاسرائيلى ٤٩ طائرة، وتضررت ٥٠٠ دبابة فى سيناء.

انتحار مائير

لقد وصل الأمر الى أن جولدا مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية، تعلن وبصراحة أنها فكرت فى الانتحار فى الأيام الأولى للحرب، بعد توالى أخبار الخسائر على الجبهة، واعترفت بالخطأ، وقالت (لقد سبق لى أن صرحت بأن مصر لا تملك القدرة على شن الحرب، ولايوجد القائد الذى يستطيع اتخاذ مثل هذا القرار، فهو بذلك يذهب بشعبه الى الهلاك)، قالت عن الحرب (لم تكن مجرد حدث عسكرى كبير أو رهيب، إنما مأساة عاشت وتعيش معها حتى الموت، لقد وجدت نفسى فجأة أمام أعظم تهديد، تعرضت له إسرائيل منذ قيامها، بينما يقول أروى بن أرى مساعد قائد جبهة سيناء عن الساعات الأولى لهجوم الجيش المصرى: (كان شعورنا مخيفا، كنا نزداد صغرا، والمصريون يزدادون كبرا والفشل سيفتح الطريق الى تل أبيب، فى اليوم التالى منذ فجر السابع من أكتوبر وحتى غروب الشمس، كان مصير إسرائيل متوقفا على قدراتها على الهجوم المضاد، لم تتعرض إسرائيل لخطر الدمار بصورة ملموسة، كما حدث فى ذلك اليوم).

نماذج للنجاح

اعتدت السفر الى أمريكا، بانتظام منذ عقدين من الزمن، تعرفت على نماذج مصرية مشرفة تعتز بأصلها المصرى، وارتباطها المستمر بها عبر الزيارات السنوية، وتواصلها الدائم مع الأهل والأصدقاء، ولعل شعارهم هو (مصر بلد يعيش فينا، وحتى لو لم نعش فيه)، اهتماماتهم بكل ما يهم بلدهم الأصل، رغم جنسيتهم الأمريكية، وكان من ملاحظاتى الشخصية أن أعدادا ليست قليلة من تلك النماذج تعمل فى الطب، بعد دراساتها فى مصر، ومع فرصة السفر والإقامة والعمل استطاعت تحقيق نجاحات ملحوظة، وأتوقف عند نموذجين الأول الدكتور عماد سليمان الذى تشرفت بالتعرف عليه منذ عام ٢٠٠٨، وقد تخرج فى جامعة الإسكندرية عام ١٩٩٢ بامتياز، كان الأول على دفعته، وفى العام التالى سافر الى أمريكا للتحضير للدكتوراه، حيث أكمل الدراسة وقام بالتدريب فى جامعة آينشتاين فى نيويورك، ليتم تعيينه استشاريا فى أمراض المخ والأعصاب عام ٢٠١١، فى مركزه الطبى البعيد خارج نيويورك بين مرضاه من الأمريكان، تشعر بالفخر تجاه هذا النموذج الناجح، الذى يقوم بهذا الدور الإنسانى وأحيانا ما أقاوم نفسى أن أقف فى مركزه مخاطبا مرضاه (نحن ننتمى إلى بلد واحد اسمه مصر)، ولديه بعض الأفكار لتطوير المنظومة الصحية فى مصر بكل أبعادها، ويمكن الرجوع إليها مرة أخرى والنموذج الثانى الدكتور محمد محمود عبدالله، وتصادف أنه خريج نفس الكلية والدفعة، ولكنه تأخر قليلا فى السفر الى أمريكا بعد ست سنوات من تخرجه، تخصص أمراض باطنة، والمشرِّف فى قصة دكتور عبدالله ليس فقط فى الإقبال على مركزه الطبى من العرب والمسلمين، ولكنه يقوم بالإشراف على احد مساجد طيبة، هو أحد المساجد فى المنطقة، حريص على الصلوات فى وقتها، مهتم بفكرة الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية فى مجتمع مختلف، ولكنه يؤمن بالتعددية الدينية والعرقية، ويصف نفسه بأنه (مواطن أمريكى حريص على أصله المصرى، يحاول أن يقدم نموذجًا للإسلام الوسطى).