«أغنى أهل الأرض».. قصة قصيرة للكاتبة ياسمين عبد العزيز

الكاتبة ياسمين عبد العزيز
الكاتبة ياسمين عبد العزيز

ذهبت مستاءًة ذات يومٍ من هول ما رأيت من صديقة لي، فالمصاب والله جلل، فذاك المشهد سيبقى محفورًا في ذاكرتي أبَدَ الدَّهرِ ما حييت، ولن يذهب عن مخيلتي ولو لطرفة عين خاصة في تعاملاتي الحياتية، فما نهلته من نهر عطاء أمي - رحمها الله- الذي لا ينضب أبدا، وفير.

 منذ نعومة أظفاري، تربيت على القناعة وعدم النظر إلى ما في يد الغير، فالعز كل العز والسعادة جُلها أن تكون راضٍ بما وهبك الله من نعم، فما تحسبه يسيرًا هو عند بعض بني جلدتك كثير وكثير.

 قبل وفاة أمي، ضاق صدري ذات ليلة، لدرجة أن الدنيا بدت لي وكأنها لا تساوي حقا «جَنَاحَ بَعُوضَةٍ»، فرأيت صديقة لي تنظر إلى بطريقة لم أعهدها قط، فما كان مني إلا أن بادلتها النظرات متوجسة ومرتابة وكلي حيرة من أمرها، فقد أكلنا «عيش وملح» مع بعضنا البعض مرات ومرات.

 هداني تفكري أن أباغتها بسؤال عن سر تلك النظرات التي فضحتها عيناها الصغيرتان، فوالله إن للعينين لغة لا يفهمها إلا «مَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيد»ٌ.

 صعقت من ردها حينما قالت لي إنها تغار مني كثيرًا في عدة أمور منها؛ أنني أمارس الرياضة وأحافظ على صحتي، واهتمام وَالِدَيَّ بي وبري بهما -رحمها الله- فضلا عن لباقتي ونظافة لساني قبل ثيابي، ومعاملتي الناس كما يحب أن يعاملوني، فالدين المعاملة.

 الحقيقة أنني لم أنهرها، بل قلت لها «قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى»، فالرضا رضا القلب كما علمني أبي وامي -رحمها الله- ومن رضي بما لديه رضي الله عنه وأرضاه.

 بدأ قلبها ينشرح، لكنني أحسست أنها لديها غُصَّة لا تزال في حلقه تعتصر قلبها وجسدها، فهممت مسرعة إلى أمي وقصصت عليها ما رأيت.

 فقالت لي أمي: «يا بنيتي، تربينا على أن لَا نمُدَّنَّ عَيْنَيْنا إِلَىٰ مَا مَتَّع الله به غيرنا، وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ»، فذلك علاج للنفوس المريضة التي أصابها العطب، فالنفس إذا مرضت بالنظر إلى ما في يد الغير، فعلاجها القناعة».

 قلت لها: «زيديني يا أماه».

 فقالت: "ألا تعلمين يا بنيتي أن الحكمة من قول الله تعالى لنبيه الكريم «وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى»، أن الرِّضا هو أعلى دَرجَاتِ العَطاء، فالرضا يغنيكِ عن النظر إلى ما في يد الغير، ولن يبلغُ أحدٌ درجةَ الرِّضا إلا إذا أذنَ اللهُ وأعطَى، ولنا فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ يا بني".

 واستطردت قائلة: «ألم تتدبرين حديث رسولُ اللَّه ﷺ حينما قال: انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ».

 رددت عليها قائلة: «اروي ظمأي بكلامك يا أماه».

 فواصلت حديثها قائلة: «القناعة تغنيكِ عن النظر إلى ما في يد الغير، وهنا يحضرني حديث للمصطفى صلى الله عليه وسلم: لو أن لابنِ آدمَ واديًا من ذَهَبٍ أَحَبَّ أن يكونَ له واديانِ، ولَنْ يملأَ فَاهُ إلا الترابُ، ويَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».

  اِنْفَرَجَتْ أَساريرُ وَجْهِي، فاختتمت والدتي حديثها مستشهدة بأبياتٍ لأمير الشعراء أحمد شوقي:

«إِنَّمَا الأُمَمُ الأَخْلاقُ مَا بَقِيَتْ.. فَإِنْ هُمُ ذَهَبَتْ أَخْلاقُهُمْ ذَهَبُوا»

«وَإِذا أُصيبَ القَومُ في أَخلاقِهِم.. ‏فَأَقِم عَلَيهِم مَأتَماً وَعَويلا»

 وما إن فرغت من لقاء أمي، حتى هرولت إلى صديقتي لعلي أنجح في إزالة الغشاوة التي على قلبها، فقصصت لها ما روته أمي.

 فإذ بصديقتي تضمني إليها وتحتضنني فرحًا بما قصصته عليها، وتعهدت لي بالسير على الدرب.

 فعندها حمدت الله كثيرًا على أنني تعلمت أن «الغنى غنى النفس»، وأيقنت أن ما زرعه أمي وأبي- رحمها الله- فىَ من أخلاق «لن يذهب سُدى».