قضية ورأى

من وراء جُدُر

د. اسامة رسلان
د. اسامة رسلان

تأملت حديث الساعة والأجيال فوجدت الآية التالية حاضرة أمام عيني: ﴿لَا يُقَاتِلُونَكُم جَمِيعًا إِلَّا فى قُرىً مُّحَصَّنَةٍ أَو مِن وَرَاءِ جُدُرِ بَأسُهُم بَينَهُم شَدِيدٌ تَحسَبُهُم جَمِيعًا وَقُلُوبُهُم شَتَّى ذَ لِكَ بِأَنَّهُم قَوْمٌ لَّا يَعقِلُونَ﴾ «الحشر: ١٤»؛ وقد نزلت سورة الحشر فى خيانة جماعة اليهود المعروفة تاريخيًا باسم «بنى النضير» عهدَ النبى صلى الله عليه وسلم، واتفاقهم مع المنافقين عليه؛ فحشرهم «أى: حاصرهم» حتى جلوا عن المدينة المنورة. 

و«الجُدُر» الواردة فى الآية جمع «جدار»، بمعنى السور؛ وقيل بمعنى الزروع العالية من قولك «أَجْدَر النخل» أى أينعت ثماره؛ وفى كتب التاريخ أن تلك الطائفة وغيرها كانت تحتمى بآطام عالية «أى حصون مرتفعة». وهذا كلام الله سبحانه فى قوم لم يتركوا تاريخهم أو ينفروا من مخازيهم؛ بل ظلوا يراكمون خبراتهم وتجاربهم للتفنن فى خيانة العهود والبطش بمن يستطيعون بعد أن التحفوا برداء الصهيونية البغيضة، فى حين أنهم أجدر الناس بالوفاء بالعهد واحترام الدماء فى العصر الحديث جراء ما لاقوه من تنكيل ومحاولات إفناء؛ فإذا بهم يتقنون أسباب الإفناء بدل أسباب التراحم! 

بإسقاط معانى هذه الآية تجدها صادقة على الكيان المزروع فى منطقتنا، فأهله لا يقاتلون إلا فى قرى محصنة أو من وراء جدار... وها هو أشهر جدران الفصل العنصرى فى العالم مقام فى الضفة الغربية، وله نظير حول غزة. وها هم بأسهم بينهم شديد، أى خلافهم وإنكار بعضهم على بعض؛ وهذا واقع مشهود معلوم فى سياستهم الداخلية وفى طوائفهم الدينية، وما اتحادهم إلا مظهر لا جوهر، لأن قلوبهم شتى «وفى قراءة: أشَتّ، أى أشد تشتتًا وخلافًا». 
وبتأمل الواقع نجد «الجُدُر» التى وردت فى القرآن قائمة اليوم كما تقدم، لكننى أود الإشارة إلى معنى الجُدُر فى شأن هذا الكيان المحتل بشقيها المعنوى والمادى. فأما المادى فقد سلف بيانه، وأما المعنوى فله صور شتى: 

أولها:     جدار التأييد العالمى الذى حرصوا على إقامته وتعضيده من قبل قيام الدولة المصطنعة، حتى بات لهم كيانات محلية فى دول صنع القرار لتوجيه بوصلة السياسات إلى مصالحهم؛ ولعل أشهرها هو المعروف باسم «آيباك» «AIPAC» فى الولايات المتحدة، الذى دأب الناس على تسميته «اللوبى اليهودى» فى أمريكا. ولهذه اللجنة -ومثيلاتها الأكاديمية والصحفية والاقتصادية، إلخ- المعنية بالدعم الأمريكى إلى إسرائيل دور حاسم فى تصعيد نجوم السياسة الأمريكية وطمس آخرين، وتوجيه دفة السياسة الأمريكية فى المنطقة، وصولاً إلى إنشاء مخازن ضخمة للأسلحة الأمريكية المتقدمة فى قلب الكيان المحتل، وإرسال أحدث حاملات الطائرات الأمريكية إلى المنطقة تأييدًا ودعمًا؛ وردعًا لأطراف أخرى. 

وثانيها:     جدار التضليل العالمى الذى نجحت فيه الدعاية الصهيونية على حساب الطرف المظلوم، فالحرب الدائرة الآن هى حرب بين «إسرائيل» و»حماس»، فحتى فى الحرب يضنون على ذكر كلمة «فلسطين» - فالمراد ألا تكون دولة ولا بالمعنى السلبى للكلمة! ومن طرائف هذا التضليل أن القناة الإخبارية الأولى والأشهر فى العالم «CNN» كانت تحاور طبيبة أمريكية متطوعة فى غزة، وأصوات القصف من خارج غرفتها الفندقية تتعالى، فإذا بمذيع القناة يقول لها: «يمكننا الانتظار حتى تتخذى ساترًا فى مخبأ من القنابل»، فردت: «لا توجد مخابئ أو ملاجئ للاحتماء من القنابل فى جميع غزة!» فالعالم يفكر فى المنطقة من منظوره ووفق مصالحه، يراها بعينيه لا بأعين أصحابها. 

وثالثها:     جدار الاجتزاء الذى لا تكاد تخلو منه وسيلة إعلامية دولية غير عربية، فالنظرة مقصورة على الحدث وتوقيته، ولا التفات إلى واقع مرير من قبل نكبة ١٩٤٨ إلى اليوم، ولا إلى مخططات التهجير والاقتلاع والإحلال والتطهير. فالكلمة التى عليها أغلب القنوات الغربية فى وصف عملية «طوفان الأقصى» هو: unprovoked assault «أى: هجوم غير مبرَر»... وكأننا أمام هرتين متناكفتين أو مهارشة للديكة ننظر من خربش أو نقر! فما هذا التناسى لحقائق التاريخ الممتد لأكثر من ٧٥ عامًا من القهر والطرد والقتل؟ إنه جدار اختلاق الأعذار الجاهزة دائمًا للمحتل. 

ورابعها:     جدار الحاجز النفسى الذى تحدث عنه الرئيس السادات ذات يوم، فالمحتل لا يصدق أن كل تفوقه العسكرى والتكنولوجى قد تهاوى فى لحظات وعلى نطاق بالغ الاتساع، بل إن اختراق حاجز غزة بهذا اليسر على الرغم من طبقات المراقبة فيه ليوحى بتعمّد يراد به تسويغ التحرك الانتقامى اللاحق. ذلك بأن تدفق عربات دفع رباعى ودراجات بخارية وأفراد وجرافات من غزة عبر ذلك الجدار على مدار ساعات ذهابًا وإيابًا لم يحرك له الكيان المحتل ساكنًا ولو من الجو؛ لكن أثر الصدمة واقع لا محالة فى النفوس، وسيظل مثيرًا للخلاف والحساب وتبادل الاتهامات وتشتت القلوب داخل الكيان المحتل. 

وخامسها: جدار العيش فى الماضى عند الصهاينة، إذ تدور فى أذهانهم خطة جديدة للتهجير، أى لإحداث نكبة جديدة «يطهرون» بها الأرض عرقيًا من أصحابها كما حدث فى عام ١٩٤٨. 

وسادسها: جدار الحصانة الموهومة فى بلدان العالم من أن يطالها شرر الحرب الدائرة فى المنطقة؛ إذ يتوهم البعض أن البُعد الجغرافى والنأى بالنفس أو استضعاف الضعيف كفيل بما يلزم. وهذا الجدار الحمائى محض وهم، فمثلاً: كثر فى بلدان أوروبية طلب الترخيص فى تظاهرات للتضامن مع فلسطين أو مع الكيان المحتل، وها هى فرنسا تضم أكبر جالية مسلمة وأكبر جالية يهودية فى كل أوروبا... وأسباب التعادى والانفلات كثيرة، ليس أدناها التهارش الاجتماعى وليس أعلاها الذئاب المنفردة.

كيف لا والتفاعلات السياسية الداخلية فى أوروبا والولايات المتحدة وغيرهما تتراوح بين صعود اليمين وهبوطه؛ فضلا عن أن الأسرى بيد حماس فيهم من يحمل جنسيات دول كبرى - وقد أذلت إيران «مع الرفض التام لما فعلته» الولايات المتحدة التى تصادف وجود رئيس ديمقراطى على رأسها يومئذ «كارتر» فى أزمة رهائن السفارة الأمريكية فى طهران، وها هو بايدن «ديمقراطى أيضًا» يواجه حالة مماثلة «مع اختلاف العدد»؛ وقد كان لأزمة السفارة أثرها فى الإطاحة بكارتر من سدة الرئاسة الأمريكية. 

وسابعها: جدار وهم الديمقراطية والشرعية الدولية: فاتفاقيات جنيف والجنائية الدولية مفعلة ضد روسيا وبوتين دون سواه، وفرنسا تلغى تظاهرات تضامنية مع فلسطين، وألمانيا تحظر ارتداء ما يفيد مناصرة فلسطين «ولو كانت الكوفية الفلسطينية»، كما أن أوروبا وأمريكا تقطعان المساعدات الإنسانية والاقتصادية المقدمة إلى السلطة الفلسطينية «التى هى باعترافهم وبإعلامهم ليست طرفا فى الحرب!» فحقوق الإنسان والديمقراطية شئون موسمية عندهم؛ يبسطونها متى يشاءون، ويطوونها وقتما يرغبون... هى سيف مسلط على الرقاب، فإذا طولبوا به صار كالسراب. 

وثامنها: جدار الأطماع الذى يغذونه صراع إرادات هو الآن على أشدّه، فالكيان المحتل طامع فى التمويل العسكرى والاقتصادى بخزائن مفتوحة بغير قيد ولا شرط، والعالم طامح إلى الخلاص من المشكلة إلى الأبد ولو بالتصابر السياسى والتعامى الإعلامى على التطهير العرقى والتهجير بقوة السلاح. وتلكم الإرادات كاشفة عن أدوار قائمة وأخرى مُرادة...

فلمصر دورها التاريخى الشريف فى مقاومة الاحتلال بنفسها ومناصرة غيرها فى سبيل ذلك، لكن الدور المُراد لها هو ألا تكون نموذج المنطقة «بنهضة تنموية وقدرة عسكرية وريادة فكرية«، بل يراد لها أن تكون «سَجّان» المنطقة الذى يتلقى أوامره من «شرطى» المنطقة «الكيان المحتل»...

وذلك بدفع أهل غزة نحو سيناء ليرتاح المحتل من عناء المقاومة، فهم -لو حدث ذلك لا قدر الله، ولن يحدث بإذن الله- سيكونون تحت مسئولية مصر التى ستحاسب على تحركاته. لكن بقليل من التفكير تجد أنه لو وجد أهل غزة مكانا أرحب وإمكانات أضخم فى سيناء كما يراد لهم فستكون شوكتهم أقوى وصوتهم أعلى وقدراتهم أشرس...

فهل هذا ما يريده الكيان المحتل؟ كلا، بل المراد هو تغيير الدور المصرى كما سلف، لتُساءَل مصر بعدها عن كل شيء. وها هو موقف مصر الرافض يجر عليها تبعات سياسية واقتصادية وإعلامية من القريب والبعيد، وتسخينًا للداخل المصرى بطريق الأكاذيب والتضليل، وإشاعة مشاعر البؤس وضعف البأس والاستضعاف وقلة الحيلة، وتنقيم الصدور على ولاة الأمور.

كل تلك الجدر تصطدم بجدار المقاومة السياسية والفكرية والاقتصادية والعسكرية، ذلك الحصن المتئد بالثقة فى الله والتزام الوعى النقى الأبى... فبذلك نحيا بدورنا النابع منها، لا بالدور المراد فرضه علينا. فاللهم حفظك ورعايتك. تحيا مصر