نقطة فوق حرف ساخن

المقايضة المستحيلة

عمرو الخياط
عمرو الخياط

خمسون عاما مرت على النصر العظيم، أسطورة.. معجزة.. سطرتها دماء الشهداء التى ارتوت بها أرض سيناء ومازالت روائحها الذكية تزكم أنوف أعدائها، وتؤرق الطامعين فى مضاجعهم.

الجروح والندبات المحفورة على أجساد المحاربين القدامى ترسم خريطة لشرف الوطن من اتبع دروبها لا يضل بعدها ولا يشقى.

روح المعجزة لم تخفت يوماً، ربما اعترتها بعض ظلمات المحن والشدائد حتى جاءت ٣٠ يونيو لتسطع بأنوارها المنبسطة على أرض المحروسة، امتداداً إلى دروب سيناء فأيقظت ماردا مصريا أوقف لحظات الزمن وحطم المخطط، وكشف الغطاء عن الوجه القبيح لتنظيم إخوانى ظن يوماً أنه يستطيع فرض قيوده وأغلاله على وطن بحجم مصر، ضعف الطالب والمطلوب.

لم تكن ٣٠ يونيو غضبة شعبية أو انفعالا لحظيا، بل لحظة توحد نادرة اتحدت فيها أرصدة الوعى الوطنى مع مخزون الإخلاص بداخل أعماق مؤسسات الدولة، فقامت الدولة من كبوتها ووقفت على قلب رجل واحد لتهتف بسقوط المرشد الذى تصدع عرشه داخل كهفه أعلى جبل المقطم.

لم تعد الجماهير إلى بيوتها، بل واصلت الصمود لتؤكد إرادتها يوم الثالث من يوليو حتى خرج القائد ملبياً نداء الجماهير من كل مدن مصر وقراها وحواضرها فكتب نهاية ذلك التنظيم ممهورة بتوقيع الشعب المصرى الذى وجه رسالة بعلم الوصول لكل أطراف المؤامرة تحت عنوان ساطع «ها قد وجدتم ما وعدتكم مصر حقاً».

لقد جاء الإخوان إلى حكم الوطن بعد أن فتحت لهم خزائن إقليمية ودولية، مدعومة بملفات أُعدت سلفاً داخل أرشيفات الأجهزة، بعدما ظن تحالف الشر أن مصر قد استكانت وخضعت لجلادها، وبعد أن قدم ذلك التنظيم «عربون الخيانة» واهماً حلفاءه أن بمقدوره إتمام صفقة القرن وإتمام «المقايضة المستحيلة» باستباحة أرض سيناء وطنا بديلا لدولة فلسطينية حقيقية تحت تهديد بنادق ذراعها العسكرى، لكن المصريين جاء ردهم حاسماً فارتد كيدهم إلى نحورهم بـ «صدمة القرن».

إن مصر العظيمة لن تكون شريكاً بالصمت أو التواطؤ فى ترك فلسطين ومصير شعبها ونضاله أداة لأوهام أممية لتنظيم لا يعتقد فى مفهوم الدولة الوطنية.
أوهام النزوح لن تتحقق على أرض سيناء، وأحلام التوسع أو الغزو لدولة إسرائيل العظمى ستتحطم على صخرة الوعى المصرى، فمصر لن تكون أبدا شريكة فى جريمة تاريخية لتصفية القضية الفلسطينية على أرض سيناء، يأبى شرفها أن تستدرج طوعا أو كرها فى أفعال الخيانة.

سيناريو المغامرات التنظيمية و «أعمال المونتاج السياسى» لن تكتب نهايته إلا الإرادة الوطنية المصرية.

مصر التى لم يتوقف نضال شعبها عبر الزمن، كتبت آلاف الفصول من تاريخ الشرف للأمة العربية بدماء شهدائها، تصدت للغزاة، وقاومت المستعمر، وهزمت المحتل، لن تشارك فى إعفاء إسرائيل من مسئولياتها التاريخية، ولن تقايض حقوق الفلسطينيين بصفقة للخزى والعار، لن تهزم فلسطين دون معركة، أبدا لن تبيع القضية، فمصر هى القضية.

وبينما تدفع مصر أثماناً باهظة مقابل مواقفها الثابتة، فإن قادة التنظيمات والأجنحة العسكرية يرفلون فى نعيم أفخم البيوت والفنادق يراكمون الثروات ولا يتوقفون عن النضال الشفوى، المكتوبة سطوره بحكايات الابتزاز المستهلكة، أسماؤهم وصفاتهم معروفة ومسجلة فى كشوف «سلاح المدفعية الشفوية» الملتحق سفاحا بالهيكل التنظيمى لمليشيات تنتحل زوراً صفة المقاومة.

ليس من قبيل التخويف، وإنما بوازع الاستدعاء الجماهيرى، لا يملك كاتب هذه السطور إلا تسليط الضوء واستشراف المستقبل القريب، ليتحسس حصارا اقتصاديا وسياسيا وقصفا إعلاميا مكثفا، ستسعى أطراف متعددة لفرضه على مصر وصولاً لحافة الهاوية، من أجل حجز مقعد للدولة المصرية على طاولة المقايضة القسرية تحت وطأة ضغوط اقتصادية فرضتها عوامل خارجية، واستغلالا لحالة من الحراك السياسى الذى تشهده البلاد بالتزامن مع الاستحقاق الرئاسى المرتقب.

لكن مكونات التركيبة السياسية لتلك الحالة لن تكتمل إلا بإضافة مادتها الفعالة المستخلصة من تغييب الوعى المصرى وتحييده عن معركة وطنه، فلا تكن للمتربصين ظهيرا.

انظر إلى المشهد بقلبك وضميرك، ظاهره حرب مستعرة بين فرقاء الصراع، وباطنه اتفاق على إراقة دماء الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ الفلسطينيين.

تابع ردود الأفعال الدولية التى انطلقت معلنة تضامنا غير مسبوق مع دولة الاحتلال الصهيونى، واسأل نفسك من فتح الطريق لعودة القوات الأجنبية للتمركز فى قلب الشرق الأوسط؟!

من الذى أظهر إسرائيل فى صورة الضحية ومنحها شرعية الدفاع عن مواطنيها المدنيين؟!

الانتقام المطلق لا يمكن أن يكون أبدا هدفا لأى حرب، إنما تخاض الحروب من أجل هزيمة الخصم، أو من أجل تحقيق مكتسبات تجبر هذا الخصم على الجلوس إلى طاولة التفاوض، وليست من أجل منحه فرصة مبررة لسفك الدماء وإبادة العمران.

اعلم جيدا الفارق بين «المقاومة» و«المقامرة» على أرواح الأبرياء العزل.

الأفعال التى تبدو متضادة توحدت من أجل سفك الدماء الفلسطينية، لتغير بذلك نظرية «نيوتن» التقليدية بأن «لكل فعل رد فعل مساوٍ له فى المقدار ومضاد له فى الاتجاه»، فقدمت نظرية جديدة لم تعرفها الحركة الميكانيكية السياسية من قبل «بأن بعض الأفعال لها ردود متوحدة معها فى الاتجاه ومضاعفة لها فى المقدار».

وبينما تسفك الدماء الفلسطينية، تصطف طوابير المصريين فى حملات شعبية من أجل التبرع بدمائهم لأبناء فلسطين.

نفس الدماء التى روت من قبل أرض سيناء، يستمر عطاؤها اليوم لتروى شرايين فلسطين.

إن مصر التى قدمت آلاف الشهداء لا يمكن أن تخون القضية الفلسطينية، ولا يمكن أن تسمح بتصفيتها، إنما تقف داعية العالم بأسره لوقف جرائم الحرب الإسرائيلية وفى مقدمتها «التهجير القسري» لأهالى غزة.

مصر التى ناضلت من أجل تحرير الأرض تدعو العالم لإيصال مساعداته إلى مطار العريش الذى تحول بقرار الإرادة المصرية إلى محطة إغاثة إنسانية دولية.

النضال المصرى لن تطويه ذاكرة التاريخ، والدماء لا تسقط بالتقادم، ومصر لن تخضع لابتزاز المغامرين.