قلب وقلم

عبد الهادي عباس يكتب: حصة رعب.. لخامسة ابتدائي!

عبد الهادي عباس
عبد الهادي عباس

غالبًا ما تكون طريقة تقديم المعلومة أهم من المعلومة نفسها؛ لأن الطريقة أسلوب من أساليب التربية، ولهذا جاءت كلمة التربية قبل كلمة التعليم في الاسم المعروف للوزارة؛ ولأمر ما أيضًا اعتقدت العرب في أن تعريف البلاغة إنما هو مطابقة الكلام لمقتضى الحال؛ أي أن الكلام الذي يصلح لفئة من الناس قد لا يصلح لفئة غيرها، وكذلك الكلام اللازم لموقف بعينه قد لا يُناسب موقفًا آخر؛ وهكذا يكون توازي الزمان والمكان والناس والخطاب المناسب من أدوات البلاغة التي يسعى إلى تحقيقها المعلم ذو الرسالة الواضحة؛ والعكس بالعكس، إذ يُصبح اختلال أحد الشروط اختلالا في إيصال المعنى المُراد إلى المستمعين أو التلاميذ؛ وهو ما يتسبب في اضطراب العملية التعليمية برمتها.

في منتصف الليل وجدتُ ابني "عليّ" قائمًا عند رأسي يكاد يبكي بصوت مخنوق يقول إنه لا يستطيع النوم وحيدًا في غرفته، وأنه يُفكر كثيرًا في حصة الدين التي ألقتها أستاذته عن أهوال يوم القيامة التي سيُلاقيها أولئك الغافلون عن الصلوات والأعمال الصالحة، في إطار الدرس الخاص بتفسير سورة الانفطار، والدروس المستفادة منها، المقررة على الصف الخامس الابتدائي.

تقول المعلمة للتلاميذ في حصتها الأولى من بداية العام الدراسي، وبعدما تلبس زيّ الواعظات: إن الذي تفوته صلاة سيصليها في جهنم يوم القيامة بعدما يتوضأ بالنار، وأن الحل الوحيد هو المُحافظة على الصلاة بالمسجد، وصلاة السنن للتكفير عما فات من التقصير في الصلاة؛ لأن علامات القيامة الصغرى قد ظهرت، والعلامات الكبرى في الطريق!

هذه هي الطريقة "المرعبة" التي تبدأ معلمة عامها الدراسي، بل حصتها الأولى، مع تلاميذها؛ وهذا هو الواقع في كثير من المدارس: طريقة مخيفة للكبار وليس لصغار لم يتعدوا عامهم العاشر بعد؛ حيث تزدحم عقول الصغار بمشاهد عن أهوال القيامة، وتخفق قلوبهم الغضة من أهوالها التي تنتظرهم، وترتعش أطرافهم لمجرد استدعاء مشاهدها المرعبة التي تحجز مكانها في خيالهم البريء؛ فيصبح التلاميذ أسارى في زنازين الخوف الأخروي، فضلًا عن الخوف الدنيوي الذي يرونه مباشرًا على الشاشات ليل نهار من حروب وأوبئة وجنايات الإنسان على أخيه الإنسان؛ حتى أصبحت عدوى مرضية تنتشر في الأعمال الدرامية والفكاهية: قتل وسرقة وإرهاب واحتلال، مما يزيد قتامة الواقع المعاش والمستقبل المنظور.

التدريس مهنة سامية ورفيعة المقام منذ الأزل؛ لأنها وارثة النبوة، ولهذا يحتاج المعلم إلى سياسة جيدة ليُقدم المادة العلمية إلى تلاميذه بصورة مُحببة ومُدهشة، تفتح أمامه أبواب الحياة وإعمارها، وتقرّبه من الدين والدنيا، ترشده إلى التعامل مع الآخر ومحبة الوطن، خاصة أن القرآن مليء بالآيات والسور التي تفتح أبواب النفس الإنسانية إلى الروح والريحان وجنة النعيم، والآيات الموجهة إلى التربية الجيدة والحض على البناء والتعمير والسلوك القويم.

لقد عانينا سنوات طوالًا من الكتب والخطب التي تتحدث عن الثعبان الأقرع وعذاب القبر، حتى إن هذه الجماعات قد حصرت الدين في هذه الجوانب المظلمة من التعذيب والقتل، وكأن الأديان قد نزلت من السماء لتنتقم من أهل الأرض، وليس لهدايتهم وإرشادهم إلى طريق الجنة؛ والحقيقة أن المؤسسات الدينية تُحاول جهدها لإصلاح هذه التصورات القاتمة عن الدين التي غرقنا فيها في حقب سابقة وما نزال نعاني تورماتها حتى الآن.

أعلم أن اختيار النصوص المناسبة للمراحل العمرية عملية شاقة ودقيقة، وأن هناك خبراء متخصصين يُشرفون عليها بصورة جادة بحثًا عن التطوير والتجويد المستمر للمناهج الدراسية التي تلائم أعمار أبنائنا؛ ولكن هذه الهفوات تؤثر بصورة سلبية على سلوكيات عدد كبير من التلاميذ وتختزن في عقولهم صورًا منفرة عن الدين، وهو بالغ الخطورة في هذه الأعمار المتقدمة؛ وقد صدقت الحكمة العربية القائلة بأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر؛ ونحن نريد أن ننقش على صدور أبنائنا كل ما يفتح أمامهم سبل الحياة، ولا ما يُنفرهم منها.