«ابتسامة للداخل».. قصة قصيرة للكاتبة نجوى عبد الجواد

صورة موضوعية
صورة موضوعية

 

يجري قلم الكحل على الجفن في هدوء، كل المطلوب منك خط أسود خفيف. العيون جميلة، والرموش كثيفة، لا تحتاجين تجميل، أدوات التجميل تفسد الجمال الطبيعي. هكذا تقول لها أمها حينما تجدها تهفو إلى التجمل مثل صديقاتها. سر أيها القلم في سرية، لا تخط خطا كثيفا، لا تخرج خارج الجفن، يكفيك فقط أن تتواجد ببساطة.

نم في عيوني أنتَ فيها الأوحدُ

خذها دثارا... كل رمشٍ يسعدُ

الله الله هكذا علا صوتها تعليقا على الصوت الرخيم الذي يشدو بهذه الأبيات من الراديو. عيونها الجميلة يمكن أن يسكنها أحدهم يوما ما؟

ربما.

مرطب الشفاه الأحمر يقوم عندها بدور أحمر الشفاه وتبريرها لأمها جاهز: شفاهي جافة والأبيض مثل الأحمر؛ الجميع يعرف أنه مرطب. أمها محافظة وتطبِّق ما ربيت عليه في البلد، لم تغيرها الجامعة ولا المدينة  .

مازالت قصيدة ريهان القمري تشدو بها جيهان الريدي :نم واسترح . واوهب عيوني سحرها

أنت الجمال وأنت فيها الإثمد.

الله الله. الإثمد معناه يا هناء معناه يا هناء سأبحث عنه فيما بعد. 

تعيش معها بكيانها، عاشقة للشعر هي، تحاول في كتابات منذ فترة، آه لو ندرس في الكلية هذه الأشعار! تضحك، ما رسب أحدهم ولتحولنا جميعا لشعراء.

أسرعي يا هناء تأخر الوقت.

حاضر يا أمي انتهيت.

لا تصدق أنها ستذهب لفرح! هم إما في حداد على جد مات أو جار بعيد وإما اعتذارات لأن الأفراح فيها تجاوزات وهرج ومرج. استجابت الأم لصديقتها، خافت أن تغضب: نذهب سريعا، لا دخل لنا بما يدور في الفرح، نلزم الأدب، نقدم الواجب ونعود.

وإلا أذهب لوحدي.

السمع والطاعة طبعا، إنها فرصة ربما لا تتكرر، نريد أن نرى الأفراح والناس السعداء.

مبارك يا غالية. تقبِّل أمي صديقتها.

شرفتما الفرح العقبي للأولاد.

في حياتك إن شاء الله.

آخر ترابيزة في ركن خلف باب القاعة بعيدا عن الكوشة وما يحدث فيها جلسنا. عيوننا لا تهدأ في جميع الاتجاهات تتجول، وبما ترى منبهرة، وعلى الكوشة تحط. العروسان افتتحا الاحتفال برقصة هادئة، يبدو الامتعاض على وجه الأم لكنها ترسم ابتسامة. بعد حين تتحلق الفتيات حول العروسين ويتحركن حركة دائرية على أنغام الموسيقى. تجد نفسها سعيدة تصفق معهن. تأتي أم العروس لتصحبها وأختها لينضما للفتيات ترفض دون الرجوع للأم فهي تعرف رأيها، فضلا عن أن لبسها عادي. الغالبية تريدين "السوارية" لن تظهر بينهن بمظهر جيد. ابتسمت الصديقة وغادرت لتحية بقية المعازيم. استمرت دائرة البنات وغناء الشباب وهن لا يتحركن. أبيات القصيدة تأتيها وكأنها فصِّلت على العروسين!

هذي طيور الحب تعشق خطونا!

زوج تفقد روحنا ليغردوا.

تنهيدة وغياب مع الشعر والمشهد الرومانسي للعروسين تفيق على ابتسامة لها في الركن الآخر المواجه. حدّقت له بفعل المفاجأة ثم أرخت جفونها خجلا وأخذت تستجمع نفسها وتتغلب على توترها حتى لا تسألها أمها عما حدث. تهدأ الموسيقى ويعلن عن التوقف لكتب الكتاب. تغمرها سعادة كما الحضور وتعود تلتفت حولها وترسل نظرها خلسه في اتجاه مائدته، الابتسامة الهادئة نفسها ونظرة الإعجاب التي لا يحاول أن يداريها.

تنظر إليها أختها وتسألها ماذا جري؟

لا شيء

لكنك متوترة.

لا، إنه أثر القصيدة والفرح.

أية قصيدة؟!

فيما بعد فيما بعد. تنطلق الزغاريد وللعجب تزغرد أمها

فرحة! ستكون أسعد في فرحها بالتأكيد.

 هذي عيوني تحكي فيك قصتي بركان حب ثائر لا يهدأ

ممكن تحكي عيونها قصة حب. يوما ما؟  اهدئي يا تعيسة إنك مثل الفلاح الذي يزور العاصمة للمرة الأولى كل شيء يبهره، وربما صدّق كل كلمة يسمعها. هكذا تخاطب نفسها. تحركت أمها من مكانها، تريد دعم صديقتها تراها متأثرة بزواج ابنتها، بقيت وأختها في مكانهما وقد عزمت ألا تنظر تجاهه مرة أخرى. تسللت أختها من مكانها بحجة الذهاب للأم وفي الحقيقة كانت تريد مشاركة الأحداث عن قرب حيث الجميلات المتمايلات المبتهجات.

من الكوشة تنتقل عيناها للحوار الدائر بين أمها وصديقتها

 مساء الخير. هكذا تسلل إليها صوت من بين ضجيج الفرح. التفتت إليه فإذا هو صاحب الابتسامة! لم تدر فيمن تتحكم في ضربات قلبها السريعة أم في تعبيرات وجهها الخجلي المضطربة أم في حركة يديها القابضة بشدة على المنديل.!

أنا محمود نشأت مهندس، خال العروس.

أهلا وسهلا.

شرفتِ الفرح.

شكرا.

العقبي لك.

يزداد وجهها احمرار وتنظر حولها وتتشتت بين الظن بأن الجميع ينظر إليهما وسوف يغضب المشهد أمها و بين نبضات قلبها التي تولدت صباحا مع " نم في عيوني."

شعر بحرجها وقبل أن يستأذن منها استأذنت هي وهرعت لتحتمي بأمها وتقف بجوارها!

تأتي وقفتها بجوار العروسين، عصفوران سعيدان، لو كانت مكان العروس لقالت له. تشرد.. من هذا الذي اقتحم داخلها الآن؟!، ولِمَ هي؟! الجميلات يملأن الفرح وهي عادية في كل شيء، لماذا يبحث عن العادي؟! هل مظهرها ساذجة لذا حاول؟! هيئته محترمة، لماذا أفسد على نفسي هذه اللحظة؟! لو قبلت العروس لأسمعتها البيتين لتطرب بهما أذن العريس بدلا من هذه الدوشة. هكذا حكت مع أختها وهم وقوف.  بيتان ؟!، أنت مجنونة، عروس تلقى الشعر في فرحها! نكتة.

تعيش ما تقول وكأنها أمام مرآتها في البيت ولا تدري أنها تحركت من مكانها رويدا رويدا وهي شاردة، عيناها مع العروسين وقلبها ولسانها مع الأبيات: هذي طيور الحب تعشق

 خطوَنا

زوج تفقد روحنا ليغردوا.

هذي عيوني فيك تحكي قصتي

بركان حب ثائر... لا يخمدُ.

الله جميل، هكذا علق هذا المبتسم على صوتها الهامس بالشعر.

 هذه المرة شعرت أنها مراقبة منه، لم تنهره ولم تسأله، فقط هربت إلى حيث أمها وأختها ومالت على الأم تدعوها للمغادرة! نظرت الأم في الساعة وتحت إلحاح صاحبة الفرح انتظرن" البوفيه" لم تقبل عليه ولم تستحب لدعوات الطعام صامتة هي بين التفكير في هذا الجريء وبين اقتناعها بأن هذا مجرد معاكسة يمكن أن تحدث في أي مكان. على باب القاعة تحركن ولم تنظر للخلف هذه المرة، أمها هي من التفتت ولوحت لصديقتها، والتفتتا معها للتوديع. لم تكن عيناه كان فمه في أذن أم العروس، ويده تشير إليهن. ابتعدت الصديقة عنه لتأتي لتوديعنا ونحن في انتظار أن نسلم القبلات بين الصديقتين تحولت لهمسات أعقبها ابتسامة من الطرفين شاركهما إياها صاحب العيون الجريئة! أما هناء فكانت تقاتل حتى لا تظهر هذه الابتسامة، وحتى تنسي مؤقتا "نم في عيوني".