يوميات الاخبار

إمتى الزمان يسمح يا جميل؟

سمير الجمل
سمير الجمل

سمير الجمل

والطبيب صاحب الـ ٩٣ سنة وما يزال يمارس عمله بقمة النشاط والتركيز ينصحك بأن تكون جاداً وصادقاً حتى لو كنت تلعب الطاولة والكوتشينة مع شلة المقهى

كان دائما يرددها وهو يعيش فى دار المسنين.. فإذا سأله زملاء الدار أن يغيرها إلى أغنية أخرى.. وقد دار الزمان عليهم جميعاً.. ولن يسمح الجميل.. ولن يعود ما مضى لأنه مضى.. زادت معدلات ارتباطه بهذا اللحن دون غيره.. إلى أن سمع أحد شباب السبعين من أهل الدار يردد فى المقابل: «هارا هاتشى بو» والغالبية ودت لو فسر لهم هذا اللغز فلا هى أغنية ولا حكمة.. لكنها جملة أصبحت محور الفضول والرغبة فى كشف سرها.. وقد تملك هذا الشعور من الجميع واولهم صاحبنا (بتاع الزمان والجميل).


وبعد توسلات ومحايلات تفضل عليهم واراد أن يزيح ستائر الغموض عن جملته حتى أن مدير الدار مهد لها بدعاية تسبق الموعد المرتقب.. وافاض عليهم من المأكول والمشروب ما يعطى لهذا الحدث ما يستحقه من اهتمام.
(٨ من ١٠)
فى البداية لابد من أن يعرف سكان هذه الدار الذين أكل عليهم الدهر وشرب حتى استقر بهم المقام فيها ان جملة (هارا هاتشى بو).. يابانية المنشأ ومعناها (٨ من ١٠).. وانطلقت من قرية «اوكيناوا» التى هى أبعد ما تكون عن المدن اليابانية التى حولتها التكنولوجيا إلى نظام آلى.. فى سبل المعيشة كافة.. كل شىء بحساب.. كل شىء بميعاد.. كل شىء بميزان.. كل شىء باسلوب.


لكن فى «أوكيناوا» كله طبيعى وبسيط وفطرى.. وفى ذلك سأل بعض الخبراء أنفسهم عن سر العمر الطويل؟.. ثم بحثوا عن الأماكن التى يتواجد فيها الأكبر سناً على وجه الأرض.. وأطلقوا عليها المناطق الزرقاء.. وسافروا إليها لاكتشاف اسرار هؤلاء الناس ومنهم من تجاوز المائة.. ويعيش حياته كما يحب وكما يريد.. اكتشفوا فى «اوكيناوا» ان أغلبهم يجلس أرضا.. ويضطر للقيام والجلوس أكثر من ٣٠ مرة فى اليوم الواحد.. يعنى حركة.. وهى فى بلادنا مرتبطة بالبركة.. ومع ذلك.. نجلس فى أماكننا نود لو جاء إلينا الأكل والشرب والشغل والريموت والحمام.. ونحن على حالنا أحدهم وقد تجاوز التسعين وقف على يديه.. وقال لهم إن السر فى ضحكته التى لا تفارقه ٢٤ ساعة حتى وهو نائم.
وآخر من ابناء المائة.. وجدوه يزرع ويقلع وعنده «شلة».. يتونس بها.. وقد عرف أن كل شتلة يزرعها.. هى دقائق تضاف إلى عمره.. عندما يجدها تكبر وتثمر وتترعرع.. ولا علاقة لذلك بألعاب شركات الاتصال التى تبشرك بأنك كسبت ألف دقيقة مجانا.. لكن عليك أن تبددها فى ساعة.. أو هدية مجانية − هكذا يسمونها − لمدة يوم واحد فقط ثم بعد ذلك تشفط رصيدك كله فى أيام معدودات.. لأن كل شىء بتمنه.. فلا تغرك الدجاجة التى يعدونك بها.. اذا شحنت واذا تعاملت مع التطبيق والكاش والذى منه وقد «تبيض» قبل أن يكتمل لك من النقاط ما يؤهلك للفوز بتلك الدجاجة الموعودة.


وبالمناسبة كل الاماكن فى ارجاء الارض التى منحت العمر الطويل لأهلها.. لا يستخدم وسائل «الهرى» التكنولوجية.. آناء الليل واطراف النهار.. والبديل تجمعات انسانية تتشارك فى رسم صورة أفضل للحياة.. وحسب نظرية الست صباح «ع البساطة البساطة».


(نحن وهم)
الحركة توفرها الصلاة.. ونقاء القلب والسريرة ونظافة الضمائر والنفوس من الغل والحقد والحسد والغيرة وسائر المدمرات.. شرط أساسى.. لكى يمتد بك العمر بإذن الله سبحانه.. هذا ما نجده فى ثقافتنا الدينية ونلقى به خلف ظهورنا.. لكن فى تلك المناطق الزرقاء.
انظر إلى ابن الـ ٩٥ يركب دراجة.. وجدة المائة وتزيد عليها بخمس.. تلضم الإبرة.. وتخيط ملابسها.. وتسألها كيف تعيشين يا (جراند تيتا) فى منزلك هذا بأقل قدر ممكن من الاثاث؟ تبتسم ضاحكة وتكشف عن اسنانها التى اندثرت منها الغالبية.. لكن ما تبقى يكفى للتعامل مع بعض النواشف.. فى قرية «بادنى» الايطالية بمنطقة (سردينيا) شعار ابناء المائة ما قبلها وما بعدها أى من هذا «الرينچ» أو المعدل (خف تعوم).. والخفافة تؤدى إلى اللطافة ولن تبلغها إلا اذا ارتديت الملابس المكتوب عليها: (الجنة بدون ناس لا تنداس).
يعنى يا محترم.. تحب غيرك لكى تعرف كيف تحب نفسك وتدلعها ولتكن سكة العطاء أكثر اتساعاً من سكة الأخذ والهبش والتكويش.. وربما أخذت جماهير ليفربول الانجليزى من هؤلاء كلمات نشيدهم الشهير: لن نتركك وحدك..
ولن تجد فى المناطق الزرقاء تلك ما يسمى بدار المسنين.. فكل واحد يعيش فى بيته.. لكن الابواب مفتوحة لمن يأتى.. ولمن يخرج إليهم.. وقد داسوا على وسائل التواصل التكنولوجية.. واستبدلوها بالذى هو أفضل واحسن من التواصل الانسانى الطازج والاصلى بدون اضافات صناعية وألوان كيميائية.


ولهذا قال الخبراء الذين صنعوا هذا الفيلم الوثائقى بعد أن طافوا شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً.
− احذر ياجدو لانك فى دار المسنين تخسر من سنتين إلى ٦ سنوات يتم قضمها من عمرك.


فى قرية «بادنى» مرتفعات ومنحدرات.. يتعامل معها ابناء المائة بشكل اعتيادى.. انها توفر لهم قدراً من الرياضة وهم يمارسون شئون الحياة المعتادة.. وفيهم من يزيد على الصعود والهبوط بالمشى خلف «غنماته» التى يرعاها.. فاذا بها هى أيضا ترعاه.. تجدد دورته الدموية وتقوى الاعصاب ومكافأة كل ليلة وكل يوم.. «ألبانها» التى لم تعرف البودرة.. ولا الخلط بالماء والفورمالين والنشا والچلاتين والصبغة الصفراء لكى تتحول إلى «لبن بقرى» وما خفى كان أعظم واصعب.. وإلا بالله عليك أين هى الابقار التى تدر علينا آلاف العلب من الألبان التى تراها على أرفف المحلات تغريك بأنها فى حالة (عرض خاص) واشرب يا معلم.. بعيدا عن اللبن سألوا الجد «دانيالى» ابن المائة: ما طعامك يامن حضرت الحرب العالمية الأولى والثانية وما بعدهما من حروب أخرى.. سألوه ماذا تأكل؟ فقال:
− شوربة الخضراوات.. وأنام كما ينبغى.. وأمشى كما أحب.. وأحل مشاكلى البسيطة.. وأعتمد على نفسى.. وأفضل السميط المصنوع من البطاطا والجبن واشجع انترميلان.. وكان «بيليه» لاعبى المفضل حتى وقت قريب.
ومن اليابان وايطاليا اتجهوا إلى ضاحية «لوماليندا» فى ولاية كاليفورنيا الامريكية.
(دراجة وحصان)
العيل ابن الستين فى المناطق الزرقاء يركب الدراجة ويلعب الكرة.. ويقول لك:
− عندما نرفع الرايات البيضاء ونستسلم للعجز والترهل والانكماش.. تجرفنا فيضانات الحياة فى مياهها.. بسهولة.. ولكنها تحترم شجاعتنا عندما نواجهها وتفسح لنا الطريق وتمدنا بطاقة متجددة كأننا فى كل يوم نولد بعمر جديد بفكر جديد وأمل جديد.


وعندما اتجهوا الى «ايكاريا» الصخرية فى اليونان وجدوا انهم ينحتون فى الجبال بيوتا ويعتمدون بالتالى على العسل بدلاً من السكر والشعير وصناعة القهوة من الحمص ويشربون شاى الاعشاب ويحترمون المرمية أو (المرامية) كما يعرفونها فى صعيد مصر إلى جانب اكليل الغار والخبيزة وهى من عائلة السبانخ وهى ما شاء الله.. استقرت فى مصر من قديم الأزل.. لكنها مهضومة الحق ولم تأخذ نصيبها الكافى من الشهرة مثل الكرنب أو الملفوف وهو من نجوم المائدة المصرية عندما نراه على شكل محشى يظهر غالبا فى المواسم والاعياد وبعد ذلك سافروا إلى منطقة «نيكويا» فى كوستاريكا التى تعد بالمقاييس الاقتصادية من أفقر مناطق العالم.. لكن المولى سبحانه وتعالى عوضها بالمناخ وبأنواع من المأكولات أمدت فى أعمار أهلها.. فهل يدهشك مثلا اذا رأيت الجد «راميرو» وقد اقترب من تمام القرن فى عمره.. ولكنه يقفز إلى حصانة بخفة ورشاقة ولا أحسن نجوم الكاوبوى.. وإذا سألته ما سرك يا خيال؟ فسوف يضحك ولو كان يعرف العربية لوجدته يغنى لك «على مهلك حاسب على مهلك» وهى من اشهر اغانى ليلى مراد لكنها هناك فى «نيكويا» تحولت الى قانون للحياة يقول: لا تجعل ايقاع الحياة السريع يفرمك تحت قدميه.. وعليك بالفاصوليا والذرة.. واليقطين وانت − أعزك الله − تعرفه فى بلادنا بأنه «القرع» وأخوته.. وقد حوله البعض إلى منهج فى أمور اللوع واللف والدوران مع أنه فى الاكل والفائدة الغذائية ألذ.. ألذ.. ألذ.
وفى هذه المنطقة يتحدثون عن قصة «ألبرت لى» الذى أخبره الاطباء بأن عليه ان يودع الأحبة لأن أيامه فى الدنيا أصبحت معدودة واختار أن يموت فى مسقط رأسه فإذا به يعيش ٢٠ عاما (اكسترا) أى زائدة على عمره ولما سأله احدهم: أنت لسه عايش؟ أجابه ضاحكاً: معلهش نسيت أموت!
و«ألبرت» حول حكايته مع الطبيعة والبال الخالى والروقان والحركة الى واقع وأسس مدينة تحمل اسمه تعيش بهذا الاسلوب.. مكتوب على بابها:
− اخلع عُقدك وكلاكيعك على الباب قبل الدخول.. ولخصوا كل الحكاية فى أربعة ألوان.. كل واحد منها يمثلا ضلعا من اضلاع مربع السعادة: حركة − أكل − تواصل − هدوء.. وشرط القبول فى مدينة «البرت» بعيدا عن مكتب التنسيق.. وكشف الهيئة ان يكون لك خطة فى الحياة..


وتعال معى إلى منطقة زرقاء أخرى فى سنغافورة.. الناس عندهم أغلى الموارد الطبيعية.. والطبيب صاحب الـ ٩٣ سنة وما يزال يمارس عمله بقمة النشاط والتركيز ينصحك بأن تكون جاداً وصادقاً حتى لو كنت تلعب الطاولة والكوتشينة مع شلة المقهى.