حماة النصر| المصريون تبرعوا بالمال والدم لاسترداد الكرامة والأرض

حماة النصر
حماة النصر

سما صالح

٥٠ عاماً على ملحمة النصر العظيم التى حققها المصريون فى معركة السادس من أكتوبر عام ١٩٧٣، ومازالت - وستظل  - الملحمة تجسد «حدوتة فخر واعتزاز» تٌروى للأجيال جيلاً من بعد جيل إلى مئات الأعوام القادمة.

لم تكن حرب أكتوبر مجرد معركة عسكرية فحسب، وإنما ملحمة بطولات وتضحيات وقف أمامها التاريخ، وسيقف أمامها المؤرخون العسكريون طويلا لسنوات وعقود قادمة، فقد حطم المصريون بصبر وصمود كل الموانع التى صنعها الإسرائيليون للاحتفاظ بأرض سيناء إلى الأبد، وفى المقدمة منها الترويج لأسطورة «الجيش الذى لا يقهر» بهدف إضعاف الروح المعنوية للمقاتل المصرى..

وفى غضون ست ساعات فقط حطم المصريون خط بارليف الذى ادعى العدو الإسرائيلى أنه يحتاج إلى قنبلة نووية لاختراقه، وفى أيام معدودات سجل الجنود المصريون أروع حكايات الشجاعة فى معارك جانبية مع قوات الجيش الإسرائيليى فى مناطق متفرقة فى شبه جزيرة سيناء ومحافظة الإسماعيلية. 

القوات المسلحة درع وسيف المصريين فى الماضى والحاضر والمستقبل وجميع المواطنين الذين يساهمون فى بناء بلدهم، هم صانعو النصر لحرب أكتوبر المجيدة والتى تعد أعظم انتصارات الأمة العربية فى تاريخها الحديث.

وحرب أكتوبر جسدت أصالة شعب مصر وقواته المسلحة وعظمة ولائهم للوطن، ولم تكن مجرد معركةٍ عسكريةٍ خاضتها مصر وحققت فيها أعظم انتصاراتها، وإنما كانت اختبارًا حقيقيًا لقدرة الشعب المصرى على تحويل الحلم إلى حقيقةٍ، حيث أعاد أبناء مصر أمام الجميع تشكيل خريطة القوى فى العالم، وأصبح الانتصار نقطة تحول كبرى فى التاريخ الحديث.

وحرب أكتوبر غيرت الفكر العسكرى الحديث، والجيش المصرى هو صانع المعجزات عبر العصور وقصة الحضارة الإنسانية شاهدة على ذلك وبناء أقدم دولة فى التاريخ شاهدة على ذلك أيضا، تلك الحرب التى لم تقتصر آثارها على المدة الزمنية للحرب فقط بل امتدت لتنشر أشعة الأمل فى كل ربوع مصر، وتبعث فى نفوس المصريين جميعًا روحًا جديدةً تتسم بالإصرار والتحدى والقدرة على مواجهة الصعاب وتحقيق الإنجازات.

كان رهان الاسرائيليين عقب هزيمة 5 يونيو 67 على استسلام المصريين وخضوع القيادة المصرية للهزيمة وخرجت تصريحات قادة إسرائيل تحمل نبرة الصلف والغرور والاستعلاء والاستخفاف بقدرة المصريين على الحرب والقتال مرة أخرى، وأن أمامهم مائة عام حتى يفكروا فى قتال إسرائيل، لكن من رحم الهزيمة لاحت رايات النصر على الفور بالرد السريع من الشعب المصرى بالتمسك بقائده وبداية مرحلة الصمود والتحدى.

فى العلوم العسكرية فالنصر لا يتحقق على جبهات القتال وانما قبل ذلك يتحقق أولا  بوحدة وصمود ووعى الشعب فى الداخل او ما يسمى بقوة الجبهة الداخلية.

ومفاجأة رفض الشعب المصرى للهزيمة وإعلانه الإصرار والعزيمة على تحرير أرضه وانصهاره فى بوتقة الوطن وتضحياته بكل ما يملك من أجل الثأر والنصر لا تقل عن مفاجأة يوم العبور يوم 6 أكتوبر 73.

الشعب المصرى عن بكرة أبيه - عدد سكان مصر تقريبا كان يتراوح ما بين 32 و34 مليون نسمة - كان السند والداعم لجيشه والمحفز له على النصر فى جبهات القتال فوق أرض سيناء ..كانت رسالة الشعب لجيشه واضحة.. نحن معكم ووراءكم مهما كانت التضحيات ومهما كان الثمن.. ولذلك فقد تحقق النصر المبين بفضل شعب الجيش وجيش الشعب.

ظهرت أصالة وعراقة المصريين فى وقت الحرب .. الكل كان فى واحد والواحد كان يضحى من أجل الجميع .. مصر كانت فى عيون وفى وجدان وفى ضمائر وفى أحلام كافة طوائف الشعب..

لا شكوى من الغارات واصوات أبواق الانذار .. لا شكوى من استشهاد المدنيين فى المصانع والحقول والمدارس ..لا شكوى من ندرة التيار الكهربائى..

ولا شكوى من أى نقص فى الخدمات أو فى المواد التموينية. لم يضق المصريون بمعيشة الحرب بل تحمل الجميع ما هو فوق الطاقة وصبروا وآمنوا بإرادتهم فى النصر ..

اقتسم المصريون لقمة العيش وبزغت معانى الإيثار والإخاء والتكافل الاجتماعى فيما بينهم.
كانت أولى المفاجآت، هى انتفاضة المصريين للتبرع بكل ما يملكون من أموال وذهب للمجهود الحربى وانهالت التبرعات على القوات المسلحة لتعويض خسائرها واعادة بنائها مرة آخرى.

وكان الاستعداد للمعركة يتم جنباً إلى جنب مع ترميم الجبهة الداخلية وترميم النفوس والأفراد والتعويض عن الممتلكات وعن تدهور الأحوال المادية والمعنوية، فأصدر رئيس الجمهورية قراراً فى أبريل 1973 بتشكيل لجنة تعويضات الحرب من وزارات ومحافظات أصابتها الأضرار، ولذلك لحصر الأضرار وفق ضوابط محددة وواضحة وعرضها على مجلس الوزراء لإقرار التعويضات، وقد جعل القرار تبعية هذه اللجنة لنائب رئيس الوزراء ووزير المالية والاقتصاد والتجارة الخارجية الدكتور عبدالعزيز حجازى.

وفى نفس عام النصر وقبل نشوب المعركة، كانت الدولة حريصة على تضميد جراح المهجرين من مدن القناة واستثنت الدولة أبناءهم من انتظار الدور للتعيين فكانت تقوم بتعيينهم بمجرد تخرجهم، ولذا طلبت وزيرة الشئون الاجتماعية الدكتورة عائشة راتب موافقة لجنة الخدمات بمجلس الوزراء بتعيين أبناء المهجرين الحاصلين على المؤهلات العليا والمتوسطة، الذين تخرجوا فى 1973.

القيادة الذكية فى ذلك الوقت مدت جسور الثقة والتواصل بين الشعب والجيش ..ووافق مجلس الوزراء فى 19 يناير 1972 على اقتراح الفريق محمد أحمد صادق، نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية فى ذلك الوقت، على قيام القوات المسلحة بتنظيم زيارات لأفراد الشعب المصرى إلى جبهة القتال، وبخاصة من الطلبة والطالبات.

ساعة الصفر للحرب تقترب والجبهة الداخلية تثبت ساعة بعد ساعة ويوما بعد يوم أن الحائط القوى الصلب الذى يستند عليه الجيش فى معركة الشرف والمجد.

لم تواجه حكومة الدكتور عزيز صدقى - وزارة الإعداد للحرب - ومن بعدها وزارة الحرب برئاسة الدكتور عبد العزيز حجازى اى صعوبة فى تجاوب الشعب مع كل اجراءاتها من أجل الاستعداد للحرب.. الشعب كان يفاجئ حكومته كل يوم.

ومع بداية الحرب وطوال فترة المعارك تراجعت معدلات الجريمة فى الشارع المصرى وكادت سجلات الشرطة  تخلو من الجرائم الجنائية. فقد كشفت السجلات حينها أن المحاضر والبلاغات بأقسام الشرطة والنيابات خلت خلال الأيام الثلاثة الأول من الحرب من تسجيل سوى الجرائم المعروفة لدى أجهزة الأمن بـ«الجرائم العارضة».

مسألة تراجع معدل الجريمة وقت حرب 73 يرجع للعديد من العوامل النفسية والاجتماعية للشعب المصرى الذى تظهر فيه بشكل واضح  قيم التضحية والإثار والتسامح  فى الشدائد والأزمات، وهو ما كشفت عنه إحصائيات وتقارير وزارة الداخلية التى سجلت عدم وجود بلاغات أو محاضر لمدة 3 شهور قبل الحرب وبعدها واكتملت المدة حتى منتصف نوفمبر.

الجريمة تراجعت فى حرب أكتوبر 73 نتيجة الشعور بالحس الوطنى لدى المصريين بضرورة تغييب المصلحة العامة وتجميد الخلافات الشخصية، ولذلك كانت المجالس العرفية داخل الأحياء والقرى هى التى تقوم بحل النزاعات القائمة، فعلى سبيل المثال لا الحصر لم تسجل حالة سرقة واحدة رغم أن أصحاب المحلات كانوا يتركون محلاتهم فى العراء دون حراسة فى أوقات الغارات لتكاتف الشعب.

المفاجأة الأخرى للشعب المصرى ..عندما دعت وزارة الصحة وقت الحرب المصريين الى التبرع بالدم.. فامتلأت المستشفيات ومراكز ووحدات التبرع بالدم بملايين الشعب ..فما كان من وزير الصحة وقتها الدكتور محمود محفوظ إلا أن يطالب المواطنين بالتوقف عن التبرع بالدم، لأن جميع «ثلاجات» الدم فى جميع مراكز التبرع بالدم فى جمهورية مصر العربية بدءا من ساحل المتوسط إلى أسوان امتلأت..!!