و .. رحلت عن عالمنا “عاشقة مصر” الفنانة الممثلة والمطربة “نجاح سلام” ؛ بعد مسيرة رحلة العمر التي جاوزت تسعين عامًا؛ ولأنها اقتنصت شهرتها ـ بين عمالقة الفن والغناء المصري في خمسينيات القرن الماضي ـ وذيوع صيتها الغنائي والفني؛ هذا الذيوع الذي تواكب مع أوج انتصارات ثورة يوليو في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؛ فقد آثرت الرحيل في 28 سبتمبر؛ وهو التاريخ نفسه الذي رحل فيه الزعيم عبد الناصر؛ وكأنها في حياتها ومماتها؛ تلتصق بتاريخ الثورة والثوار في مصر؛ فهي التي ساندت مصر وشعبها ضد العدوان الثلاثي في العام 1956بأغنياتها الوطنية الصادقة؛ وصدحت بصوتها المائز المليء بالعاطفة الجياشة والمشاعرالوطنية المتاججة بأغنية “ انا النيل مقبرة الغزاة”؛ للشاعر المصري محمود حسن اسماعيل؛ وألحان الموسيقار العملاق رياض السنباطي؛ وبأغنية “ ياأحلى اسم في الوجود .. يامصر”؛ من كلمات الشاعر/اسماعيل الحبروك وألحان الموسيقار الفذ/محمد الموجي ؛فمن بين الإبداعات الوطنية التى تغنى بها نجوم الغناء فى مصر والوطن العربى ، طلت علينا وسط هذه الكوكبة الفنانة القديرة نجاح سلام القادمة من لبنان برائعتها هذه ،التى روى لنا حكايتها الناقد الرياضى الإعلامى محمود معروف فى برنامج «المضيفة » الذى أذيع بمناسبة استقبال الرئيس عبدالفتاح السيسى لأعضاء المنتخب الوطنى لكرة القدم فى مطار القاهرة ليهنئهم على أدائهم الرائع والمشرف بالبطولة الأفريقية ، وهى لفتة إنسانية قام بها الرئيس كأب لكل المصريين أثلجت صدورهم جميعا ً كانت موضع تقدير الشعب بكل فئاته ، ليروى لنا محمود معروف أثناء الحوار حب الشعب العربى لمصر الحضارة والإنسانية ويخص بالذكر شعب لبنان الذى جاءت من بين أبنائه الفنانة الراحلة نجاح سلام، فقد كان شاهد عيان على تسجيلها منذ بداية تأليفها وتلحينها حيث كانت تربطه بالموسيقار محمد الموجى والشاعر الكبير اسماعيل الحبروك علاقة طيبة موضحا ً أن الموجى انفعل بكلمات الأغنية التى أجازها الموسيقار محمد حسن الشجاعى مراقب الموسيقى والغناء فى ذلك الوقت مشيدا ً بروعة ما كتبه اسماعيل الحبروك خاصة فى المقطع الذى يقول « تفوت عليك المحن .. ويمر بيكى الزمان .. وأنت أغلى وطن ..وأنت أعلى مكان .. ومهما كان انت مصر .. وكل خطوة بنصر» وكان ذلك فى سبتمبر عام ١٩٥٦, ليدخل الموجى أستوديو الإذاعة فى شارع الشريفين ليخرج منه بعد أن انتهى من تلحين الأغنية التى استغرقت أقل من ساعة كاملة ورشح الشجاعى نجاح سلام لغنائها وبعد موافقة عبدالحميد الحديدى رئيس الإذاعة حينذاك، ويتم استدعاء الفرقة الموسيقية وبدء البروفات ويتم تسجيل الأغنية فى اليوم التالى لتلحينها فقد بلغت الوطنية فى ذلك الوقت قمة زهوها عند الشعراء والملحنين والمطربين أيضا،ويبلغ أداء نجاح سلام قمته ويشعر الموسيقار الموجى والشاعر اسماعيل الحبروك بالبهجة والزهو والسعادة البالغة لتنطلق الأغنية بعد ذلك عبر أثير إذاعة الشريفين وتحقق نجاحا ً مدويا ً خاصة المقطع الذى بلغ فيه الموجى قمة إبداعه اللحنى الذى أشاد به كل من حضروا تسجيل الأغنية خاصة فى المقطع الذى غنته نجاح سلام باقتدار وأعادت غناءه عدة مرات « انت بلادى الجميلة .. حضن السلام والأمان .. وإنت الحضارة الأصيلة .. قبل التاريخ والزمان .. نعيش لمصر .. ونموت لمصر .. مصر مصر تحيا مصر» وتتواصل أصداء نجاح أغنية « يا أغلى اسم فى الوجود» وفقا لرواية (معروف) ليستمع إليها الرئيس جمال عبدالناصر مبديا ًإعجابه بالأغنية ويسأل عن صاحبتها فيعرف أنها مطربة عاشقة لمصر قادمة من لبنان وأحبت هذا الوطن فيصدر تعليماته إلى صلاح الشاهد كبير الياوران بإعداد قرار منحها الجنسية المصرية ويتم ذلك بالفعل وتسعد نجاح سلام ويعد هذا القرار أعظم وسام منحه الرئيس عبدالناصر لها لتبقى فى القاهرة من يومها بين أهلها وأصدقائها و قداكتسبت محبة القلوب في كل بقاع الوطن العربي؛ ولأن “مصرنا المحروسة” هي كعبة الفن الصادق الأصيل ؛ فمنحتها ـ عن جدارة ـ صك الخلود في وجدان المصريين فسكنت قلوبهم غير مبارحة.
وإن كنت _عن نفسي _قد بادرت بالحديث عن المفارقة الجسدية والرحيل لهذه الفنانة الرائعة؛ ذلك لأن الحدث جلل .. ولكنها تصاريف القدر الذي لانملك إزاءه إلا الامتثال لمشيئته؛ فكلنا زائلون وتبقى الذكرى العطِرة والأعمال الخالدة التي يتركها الإنسان خلفه؛ وسبحان المحيي المُميت .. فهو الحي القيوم الباقي سبحانه وتعالى .
إنها الإنسانة الفنانة : “نجاح محيي الدين سلام”؛ الواعدة في مضمار الفن الراقي الأصيل، التي خرجت إلى الدنيا في العاصمة اللبنانية “بيروت” في مطلع شهر الربيع 1 مارس من العام 1931؛ وذهبت إلى بارئها في شهر الخريف في 28 سبتمبر 2023؛ وتقول سطور صفحات التاريخ ـ بتصرف ـ إن جدها لأبيها هو الشيخ عبد الرحمن سلام مفتي بيروت؛ وان والدها الفنان والأديب محيي الدين سلام؛ أحد أبرز الملحنين وعازفي آلة العود في لبنان؛ واخوها الصحافي عبد الرحمن سلام؛ وبين أحضان عائلتها ورعايتها تعلمت أصول الغناء من والدها؛ ويقول من عاصروا تلك الفترة في حياة الفنانة الراحلة : أن منزلهم كان أشبه مايكون بمعهد فني؛ يقصده كل محبي الفن والفنون الغنائية الأصيلة .
واليوم .. نودعها وهي تختتم مسيرتها الحياتية في عامها الثاني والتسعين؛ نذكر أنها كانت تعتز أيما اعتزاز بحصولها على جائزة الأوسكار من “جمعية تكريم عمالقة الفن العربي” في الولايات المتحدة عام 1995.
إن “نجاح سلام” التي استمدت شهرتها من اسمها؛ فكانت اسمًا على مسمّى؛ فكان النجاح ليس وليد الصدفة؛ ولكنه جاء بالمثابرة والمداومة والإصرار على ان تكون “نفسها” منذ نعومة أظفارها؛ فقد كانت بدايتها في الغناء من خلال الحفلات المدرسية التي كانت تقام مع نهاية كل عام مدرسي ؛ ففي العام 1948 صحبها والدها إلى “القاهرة” لإيمانه الفطري أنها كعبة الفنون في العالم العربي؛ ولأن من لم يبدأ من “القاهرة”؛ فلا بداية له؛ حيث عرّفها على كبار الفنانين مثل كوكب الشرق أم كلثوم؛ والموسيقار فريد الأطرش وشقيقته المطربة أسمهان؛ والشيخ زكريا أحمد وغيرهم. وفي العام 1949 ؛ بدأت الدخول في عالم الشهرة بين الجماهير؛ لتقوم شركة “بيضا فون “ بتسجيل أول أغانيها وهي “حول يا غنام” وأغنية يا “جارحة قلبي”، وحين شعرت بالنجاحات التي تتوالي على اسطواناتها .. قررت احتراف الغناء؛ وتجولت بأغنياتها في كل من حلب، ودمشق، وبغداد، ورام الله؛ ومع النجاحات المتوالية .. تختطفها الإذاعة اللبنانية ــ عام 1950 ــ لتسجل بصوتها بعض الأغاني؛ وكانت أولى تلك الأغنيات هي “على مسرحك يادنيا “.
ولأن النجاح يستولد النجاحات المتتالية؛ كانت انطلاقاتها السينمائية مع أول أفلامها؛ وهو فيلم “على كيفك” أمام السيدة الفنانة “ليلى فوزي”؛ وفيلمها الثاني هو “ابن ذوات”؛ وهو الفيلم الذي صدحت فيه ببعض الأغنيات التي حققت شهرة واسعة في أوساط الجمهور المصري والجاليات العربية في أوربا وأمريكا؛ مثل الاغنية الشهيرة “ برهوم حاكيني .. زعلانة سلِّيني”؛ وأغنية :” الشاب الأسمر .. جنِّنْني”؛ وتخرج من تلك المعمعة التي حققت الشهرة الواسعة؛ لتختطفها السينما لوجهها البشوش المبتسم الضاحك في فيلم “ الدنيا لمَّا تضحك” والبطولة أمام الشاب الوسيم القادم في عالم السينما المصرية الفنان شكري سرحان؛ وبمشاركة الكوميديان اسماعيل يس؛ ثم تختتم جولاتها المتسارعة في عالم السينما ـ في تلك الاعوام ـ بفيلم “ الكمساريات الفاتنات” مع الصوت الدافيء ـ ومعبود النساء في زمانه ـ المطرب “كارم محمود “ !
وتلعب الأقدار لعبتها الأزلية في لعبة الحُب والزواج وتكوين الأسرة والأولاد؛ ليكون الخلاف بين مخرج فيلم “ السعد .. وعد” مع البطل الوسيم شكري سرحان؛ سببًا في إسناد دور البطولة للمطرب اللبناني”محمد سلمان”؛ ليكون ـ بالفعل ـ السعد وعد لتلاقي القلوب .. وليكون المطرب القادم من رحم الخلاف هو شريك رحلة العمر؛ وهو الزوج والحبيب وأبو البنات : سمر/ و .. ريم !!
إن المتتبع لمسيرة حياة الفنانة الراحلة؛ يجد أن المثابرة والصبرعلى تصاريف الأقدار؛ يجد أن الحصاد لهذا الصبر هو النجاح المستمر؛ ففي العام 1971 تدعوها وزارة الإعلام الأردنية لتقديم أغنياتها في دار الإذاعة الأردنية؛ وتدعوها وزارة الإعلام العراقية لتصدح باغنياتها في الحفلات العامة والخاصة؛ وتكون راحتها بعد طول عناء بالقاهرة في العام 1972؛ حيث تشارك ببطولة احد الأفلام مع “كوكا”و”فريد شوقي”؛ لتعود مرة اخرى إلى سوريا بعد انتصارات اكتوبر 1973 لتقدم اغنية “سوريا ياحبيبتي” بالمشاركة مع الحبيب محمد سلمان والمطرب الصاعد محمد جمال .
ولم تنعم بالإقامة في سوريا؛ حيث اندلعت الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1974؛ لتعود إلى احضان القاهرة؛ حيث تقرر الإقامة الدائمة على إثر منحها الجنسية المصرية؛ لأنها بالفعل “عاشقة مصر” الأصيلة الراعية للفن والفنانين .
وتلعب الأقدار لعبتها المستمرة مرة اخرى ؛ فتلتقي بالرئيس اللبناني أثناء زيارته للقاهرة؛ ليبادرها بالقول : “أنها ثروة وطنية وفنانة عظيمة لا يجوز أن تظل خارج بلادها. فعادت إلى لبنان وقدمت أعمالا وطنية كبيرة؛ وليتم منحها وسام الاستحقاق برتبة فارس !
وداعا ..لمن تغنت بمصر فخلدت في ذاكرة الوطن ومواطنيه..سلام لروحك في عليين!