عودة التوتر بين «باماكو والطوارق» تنذر بحرب أهلية جديدة

مسلحون من حركات الطوارق السياسية
مسلحون من حركات الطوارق السياسية

فى تحول مفاجئ، اندلعت اشتباكات بين الجيش المالى وعناصر مسلحة من قبائل الطوارق، مما أثار مخاوف الجزائر التى رعت فى وقت سابق «اتفاق السلم والمصالحة» الذى يبدو أنه يواجه أصعب امتحان له منذ توقيعه عام 2015، وفى ظل تبادل التهم بين الجانبين، تغتنم الجماعات الإرهابية الفرصة لتوسيع سيطرتها على مزيد من المساحات.

فقد اندلعت مواجهات مسلحة على حين غفلة بين القوات الحكومية المالية وعناصر من تنسيقية حركات الأزواد فى مدينة «بير» بمنطقة تمبكتو شمال البلاد. خلفت المواجهات، قتلى وجرحى فى صفوف الطرفين، ما أربك الجزائر التى تراهن كثيراً على «استقرار الساحل»، وشتت تحركاتها بين التعاطى مع قرار التدخل العسكرى فى النيجر الذى تلوح به مجموعة «إيكواس»، وتهدئة الأوضاع فى شمال مالي، ومنه إنقاذ «اتفاق السلم».

فجّر إخلاء بعثة الأمم المتحدة فى مالى «مينوسما» لقاعدتها فى مدينة «بير» قرب تمبكتو شمال البلاد، نزاعاً مسلحاً بين الحركات الأزوادية من جهة، والجيش المالى من جهة أخرى، فى تطور خطير يعيد إلى الأذهان «حرب 2012» التى تسببت فى قتلى وجرحى ونزوح وخسائر مادية، وأدخلت المنطقة فى دوامة فوضى الانفصال الذى ترفعه عدة أطراف داخل الأزواد، حتى تدخلت الجزائر التى عملت على تقريب وجهات النظر بين الفرقاء، وتم التوصل إلى مصالحة تحت عنوان «اتفاق الجزائر».

ووجدت القوات الأممية فى المنطقة ضمن إطار وجهود السلام بين مالى والحركات السياسية الأزوادية عبر اتفاق الجزائر 2015، لكن الانقلاب الذى أطاح بالرئيس السابق إبراهيم أبوبكر كيتا يتهمه الأزواد بتجاهل اتفاق الجزائر بعد استفتاء على دستور جديد فى يوليو الماضي، فتح أبواب الخصومة بين الطرفين على مصراعيها، وبدأ بذلك مسلسل التوتر الذى كان خفياً حتى الأسبوع الماضي.

ويتبادل الطرفان مسئولية بدء العمليات القتالية التى توقفت رسميا منذ التوقيع على اتفاق الجزائر عام 2015، وتتهم تنسيقية حركات أزواد (سيما)، قوات المجلس العسكرى الذى وصل إلى السلطة بعد الانقلاب المزدوج عامى 2020 و2021 فى باماكو وعناصر فاغنر الروسية بقصف مواقعها بالطائرات الحربية، ومهاجمة وحداتها.

فى المقابل اتهمت الحكومة المالية حركات أزواد بالتواطؤ مع ما وصفتها بالجماعات الإرهابية، وعلى رغبتها فى بسط سلطتها على كامل البلاد، بما فيها المناطق التى تنسحب منها القوات الأممية فى الشمال. واعتبرت أن ذلك لا يشكل عملا عدائيا من جانب الدولة المالية تجاه الحركات الموقعة على اتفاق الجزائر.

غير أن حركات أزواد -التى غيرت اسمها إلى الجيش الوطنى لأزواد- رأت أنها  الآن فى «وقت حرب»  مع المجلس العسكرى فى باماكو، ودعت فى بيان سكان المنطقة التوجه للميدان للمساهمة فى الجهد الحربي. وهو ما يعد مؤشرا على بداية انهيار اتفاق السلام.

تبلغ مساحة إقليم أزواد نحو 820 ألف كيلومتر مربع، أو ما يعادل ثلثى مساحة مالى البالغة 1.24 مليون كيلومتر مربع، غير أن الإقليم لا يقطنه سوى نحو 1.3 مليون نسمة، وفقا لآخر تعداد جرى فى 2009، وأغلبهم من الطوارق والعرب، ويمثلون نحو 8.7% من سكان البلاد. والطوارق هم شعب مُسلم من الرحل، ذو أصول أمازيغية، ويستوطن الصحراء الأفريقية الكبرى الممتدة بين ليبيا والجزائر والنيجر ومالى وبوركينا فاسو.

ومنذ استقلال مالى عن فرنسا عام 1960، شهدت المنطقة 4 تمردات سعيا للانفصال عن باماكو؛ أولها عام 1963، كما رعت الجزائر 3 اتفاقات للسلام أعوام 1992 و2006 وأخيرا 2015.

ويتمثل الهدف الرئيسى لاتفاق الجزائر 2015 فى منع انفصال إقليم أزواد عن مالي، و تكفل باماكو بتنمية الإقليم المهمش، وإدماج مسلحيه فى قوات الأمن والجيش، والمناصب المدنية.

اتفاق السلام، لم يُرض كثيرا قادة الجيش،  كما أن الاتفاق لم يلب طموح الطوارق فى الانفصال عن باماكو. وتنفيذ الاتفاق اعتراه بعض التعثر، مع الرغبة فى تفكيك الحركات المسلحة وإعادة دمج عناصرها فى قوات الأمن والجيش، أو تسريحهم ودمجهم فى الحياة المدنية، وأن يكون لهم تمثيل فى المناصب القيادية. وأدى الانقلاب العسكرى فى مالى عام 2020 إلى تعقيد الوضع أكثر، وهددت تنسيقية أزواد بالانسحاب من اتفاق السلام نظرا لعدم تنفيذ باماكو بنوده طيلة السنوات الماضية، لكن الجزائر تدخلت أكثر من مرة لمنع انهياره.

يرى المجلس العسكرى بقيادة العقيد عاصيمى غويتا أن ميزان القوى فى إقليم أزواد اختل لصالحه، ويمكنه تحريك قواته شمالا للتمركز فى المنطقة وإثبات سيادته الكاملة عليها، حتى لو أدى ذلك إلى انهيار اتفاق السلام مع تنسيقية حركات أزواد.

فالقوات الفرنسية رحلت فى 2022، ولم تتمكن القوات الأممية من ملء فراغ رحيلها، ومن ناحية أخرى، لجأ المجلس العسكرى إلى الاستعانة بالدعم الروسي، واستفاد من تزويده بطائرات حربية ومروحيات قتالية. كما قامت الصين بمنح الجيش المالى مدرعات مزودة برشاشات مناسبة لعمليات مكافحة الإرهاب، وهذه الأسلحة عززت ثقة المجلس العسكرى فى قدراته على تغيير معادلة الصراع فى المنطقة، سواء ضد الجماعات الإرهابية أو الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق السلام، أو حتى دول الإيكواس التى تلوح باستخدام القوة ضد انقلابيى النيجر.

خاصة بعد توقيع قادة كل من مالى والنيجر وبوركينا فاسو فى 16 سبتمبر، على تحالف ثلاثى للدفاع المشترك عن أى طرف يتعرض لأى تهديد. 

كما دفع استنزاف الحركات المسلحة فى أزواد فى الأشهر الأخيرة فى معارك مع تنظيمات مرتبطة بالقاعدة و»الدولة الإسلامية»، المجلس العسكرى إلى السعى لملء الفراغ والسعى لتركيز سيطرته على الإقليم الشمالي، مستغلا تفوقه الجوي.

غير أنه وبالنظر إلى حروب سابقة، فإنه من الصعب على الجيش المالى الانتصار فى حرب الصحراء ضد الطوارق والعرب، خاصة إذا لجأوا إلى حرب العصابات، بالنظر لمعرفتهم الجيدة بالجغرافيا المعقدة للمنطقة.

يرى المراقبون أن اندلاع حرب بين قوات المجلس العسكرى وحركات أزواد سيخدم بالدرجة الأولى الجماعات الجهادية المنتشرة فى شمال البلاد ووسطها، ومن شأن ذلك أن يعيد تمرد الطوارق فى النيجر المجاورة وحتى بوركينا فاسو، ويفتح المجال لعودة فرنسا مجددا إلى المنطقة تحت عنوان «حماية الأقليات».
مروى حسن حسين