يوميات الأخبار

فى ذكرى المولد النبوى

محمد السيد عيد
محمد السيد عيد

بُهت أبو جهل. كان موقفه صعبًا أمام القوم. واصل حمزة التحدى. قال له: رد ذلك علىّ إن استطعت

نعيش هذه الأيام ذكرى المولد النبوى العظيم، ومن الجميل فى هذه المناسبة أن نتنسم روائح السيرة العطرة، وأن نسترجع معًا صموده صلى الله عليه وسلم فى وجه قريش، وشراستها، وصبره على المكاره فى سبيل تحقيق هدفه. إننا لا نستعيد الذكرى فقط بل نتعلم منها أيضًا.

حمزة يثأر للنبى

جلس النبى صلى الله عليه وسلم عند الصفا ذات يوم، فمر به أبو جهل. حين رأى أبو جهل النبى لم يستطع أن يكتم عداءه له، فآذاه، وشتمه، وعاب دينه. صمت النبى ولم يرد عليه. ثم انصرف أبو جهلِ سعيدًا إلى مجلسه عند الكعبة.

كانت امرأة تطل من نافذة منزلها فرأت ما فعله أبو جهل بالنبي. بعد قليل مر حمزة، عم النبي، أمام المرأة قادمًا من الصيد. نادت عليه. قالت له:

يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقى ابن أخيك محمد آنفًا من أبى الحكم بن هشام (اسم أبى جهل).

ماذا فعل به أبو الحكم؟

وجده هاهنا جالسًا فآذاه، وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه، ولم يكلمه محمد.

غضب حمزة لابن أخيه. وكان حمزة شابًا فتيًا. يخشاه الجميع لقوته وشجاعته. فلما سمع ما قالته المرأة انصرف عنها يبحث عن أبى جهل. لم يجده حول الكعبة، فلما دخل المسجد إذا به يجده أمامه. ذهب إليه وعيناه تقدحان الشرر. أمسك بقوسه. ضربه به على رأسه فشجه شجة شديدة. ثم قال له: أتسب ابن أخى وأنا على دينه أقول ما يقول؟

بهت أبو جهل. كان موقفه صعبًا أمام القوم. واصل حمزة التحدى. قال له: رد ذلك عليّ إن استطعت.

نهض رجال من بنى مخزوم لينصروا أبا جهل. إلا أن أبا جهل رأى الشر فى عينى خصمه. خشى أن يتطور الأمر إلى ما هو أكثر من الشجار. قال لأنصاره المخزوميين: دعوا أبا عمارة، فإنى والله قد سببت ابن أخيه سبًا قبيحًا.

وجلس المخزوميون وهم يأكلون أنفسهم من الغضب، ومشى حمزة وقد ثأر لابن أخيه، ولعل أهم ما فى هذا الأمر غير ما رأيناه من صبر محمد على المكاره هو إعلان حمزة إسلامه، ولم يكن أعلنه قبل ذلك، فكان إسلامه كسبًا للدعوة.

مساومة

كان عُتبة بن ربيعة رجلا حكيمًا من عقلاء قريش ودهاتها، وكان على الشرك. لمح ذات يوم النبى صلى الله عليه وسلم يجلس فى المسجد وحده، فقال لقومه: يا معشر قريش، ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أمورًا لعله يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء، ويكف عنا؟

قالوا: بلى يا أبا الوليد. قم إليه فكلمه.

نهض عتبة. سار إلى النبي. جلس إلى جواره بود. قال له بنعومة:

يا ابن أخي، إنك منا حيث علمت من السِّطَة (الشرف) فى العشيرة، والمكان فى النسب، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم، فرقت به جماعتهم، وسفهت به أحلامهم، وعبت به آلهتهم ودينهم، وكفّرت به من مضى من آبائهم، فاسمع منى أعرض عليك أمورًا تنظر فيها لعلك تقبل منها بعضها.

قل يا أبا الوليد. أسمع.

يا ابن أخي، إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا، وإن كنت تريد به شرفًا سودناك علينا (أى جعلناك سيدًا)، حتى لا نقطع أمرًا دونك، وإن كنت تريد به ملكًا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئيًا (ما يتراءى للإنسان من الجن) تراه لا تستطيع رده عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه، فإنه ربما غلب التابع (الجني) على الرجل حتى يداوَى منه.

أقد فرغت يا أبا الوليد؟

نعم.

فاسمع مني.

أفعل

بسم الله الرحمن الرحيم (حم تنزيل من الرحمن الرحيم كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِى أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ)

ثم مضى رسول الله يقرؤها عليه. فلما سمعها منه عتبة أنصت لما يقول، وألقى يديه خلف ظهره معتمدًا عليها، فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قراءته قال لأبى الوليد:

قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت، فأنت وذاك.

قام عتبة إلى أصحابه، فقال بعضهم لبعض: نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذى ذهب به.

فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟

ورائى أنى قد سمعت قولا والله ما سمعت مثله قط، والله ما هو بالشعر ولا بالسحر ولا بالكهانة، يا معشر قريش، أطيعوني، وخلوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه واعتزلوه، فوالله ليكونن لقوله الذى سمعت منه نبأ عظيم، فإن تُصبْه العرب فقد كفيتموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم، وعزه عزكم، وكنتم أسعد الناس به.

سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه.

هذا رأيى فيه، فاصنعوا ما بدا لكم.

مؤامرة كبرى

لما رأت قريش أن دعوة محمد تزداد انتشارًا بين العرب، قرروا ألا يبيعوا له شيئًا، هو وأتباعه، وألا يشتروا منهم شيئًا. (حرب اقتصادية). قرروا أيضًا ألا يتزوجوا منهم، أو يزوجوهم من بناتهم (حرب اجتماعية)، وكتبوا اتفاقهم فى صحيفة علقوها فى جوف الكعبة.

أوى النبى صلى الله عليه وسلم وأتباعه إلى شِعب من شعاب مكة (الشِعب: انفراجة بين جبلين)، ومعه جماعة المسلمين، وانضم إليهم بنو هاشم وبنو المطلب، عاش الجميع معيشة ضنكًا، لولا بعض المساعدات الخفية، رغم أن قريشًا كانت تحكم المراقبة، ومن هذه المساعدات مثلا، أن حكيم بن حِزام، وهو قريب لأم المؤمنين خديجة، كان يتجه صوب الشِعب، ومعه أحد أتباعه يحمل قمحًا، فاستوقفه أبو جهل:

أتذهب بالطعام إلى بنى هاشم؟ والله لا تبرح أنت وطعامك حتى أفضحك بمكة.

وتصادف مرور رجل يقال له «أبو البخترى بن هاشم» فقال له:

مالك وله؟

يحمل الطعام إلى بنى هاشم.

طعام كان لعمته (أى خديجة) عنده بعثت إليه فيه، أفتمنعه أن يأتيها بطعامها؟ خل سبيل الرجل.

أبى أبو جهل، وتصاعد الجدل بينهما، فأخذ أبو البخترى لَحى بَعير فضربه فشجه، ووطئه وطًأ شديدًا، وسار حكيم بن حزام لتقديم القمح لعمته.

وكان رجل يدعى هشام بن عمرو، وهو قريب من بعيد لبنى هاشم، يقوم بإدخال المؤن للمحاصرين فى الشِعب، فكان يأتى بالبعير ليلا، وقد حمله بالطعام وما يحتاجه الناس لمعيشتهم، حتى إذا صار عند أول الشِعب أطلق البعير، فيدخل عليهم محملا، ثم يعود إلى صاحبه بعد تفريغ حمولته.

يقول الإخباريون إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى طالب أثناء الحصار:

 يا عم، إن ربيّ الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسمًا هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منها الظلم والقطيعة والبهتان.

قال: أربك أخبرك بهذا؟

قال: نعم.

فخرج عمه إلى قريش فقال لهم: يا معشر قريش، إن ابن أخى أخبرنى بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كانت كما قال ابن أخى فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن كان كاذبًا دفعت إليكم ابن أخي.

قال القوم: رضينا.

ودخلوا ليروا الصحيفة فإذا هى كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما أغاظ قريش وزاد غضبها. لكنها لم تبر بوعدها، ولم تنهِ المقاطعة، حتى جاء خمسة رجال منهم فتولوا الأمر. كان الرجال الخمسة من أصحاب الضمائر الحية، فكروا فى الأمر مليًا. رأوا أنه ليس من الحكمة أن يتركوا بنى هاشم وبنى المطلب يهلكون، فتعاهدوا على نقض الصحيفة، وكان منهم رجل يسمى زهير بن أبى أمية بن المغيرة، قال لرفاقه: أنا أبدؤكم، فأكون أول من يتكلم.

فلما أصبحوا وغدا الناس إلى مجالسهم عند الكعبة، أقبل زهير عليهم فقال:

يا أهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب، وبنو هاشم هلكى لا يبيعون ولا يُبتاع منهم؟ والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة الظالمة.
انتفض أبو جهل متحديًا. قال له:

كذبت والله. لا تشق.

قال رجل ممن قرروا نقض الصحيفة: أنت والله أكذب، ما رضينا كتابتها حيث كُتبت.

قال آخر: لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نقرُّ به.

قال ثالث: صدقتما وكذب من قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها.

صاح أبو جهل وقد أدرك أن هناك اتفاقًا بين الرجال: هذا أمر قد قُضى بليل.

لم يسمع له أحد ممن قرروا نقض الصحيفة. مضى رجل منهم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا جملة تقول «باسمك اللهم». وانتهت المقاطعة.