خواطر الإمام الشعراوي .. ضحك الآخرة ليس بعده بكاء

الشيخ الشعراوى
الشيخ الشعراوى

يواصل الشيخ الشعراوى خواطره حول الآية 212 من سورة البقرة: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ».

بقوله: إن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المنظور المرئى للناس؛ لأنهم لا ينظرون إلى الراحة النفسية وهى انسجام ملكات الإنسان حينما يذهب لينام، ولم يجرب على نفسه سقطة دينية ولا سقطة خلقية، ولا يؤذى أحدًا، ولا يرتشي، ولا ينم ولا يغتاب، كيف يكون حاله عندما يستعرض أفعاله يومه قبل نومه؟ لابد أن يكون فى سعادة لا تقدر بمال الدنيا. ولذلك لم يدخل الله هذا الإحساس فى المقارنة، وإنما أدخل المسألة التى لا يقدر عليها أحد. «والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة». ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: «إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ» «المطففين: 29-33». ثم يقول الحق بعد ذلك: «فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ» «المطففين: 34-36». أى هل عرفنا أن نجازيهم؟ نقول: نعم يا رب. خصوصا أن ضحك الآخرة ليس بعده بكاء. «والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة» ولنلاحظ أن الحق سبحانه وتعالى خالف الأسلوب فى هذه الآية، لقد كان المفروض أن يقول: والذين آمنوا فوقهم. لكنه قال: «والذين اتقوا فَوْقَهُمْ» لأنه قد يؤخذ الإيمان على أنه اسم، فقد شاع عنك أنك مؤمن، فأنت بهذا الوصف لا يكفى لتنال به المرتبة السامية إلا إذا كانت أفعالك تؤدى بك إلى التقوى. فلا تقل: (أنا مؤمن) ويقول غيرك: (أنا مؤمن)، ويصبح المؤمنون مليارا من البشر فى العالم، نقول لهؤلاء: أنتم لن تأخذوا الإيمان بالاسم وإنما تأخذون الإيمان بالالتزام بمنهج السماء. ولذلك لم يقل الله: (والذين آمنوا فوقهم يوم القيامة) وإنما قال: «والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة» ليعزل الاسم عن الوصف. ويذيل الحق الآية بالقول الكريم: «والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ». ما هو الرزق؟ الرزق عند القوم: هو كل ما ينتفع به؛ فكل شيء تنتفع به هو رزق. وطبقا لهذا التعريف فاللصوص يعتبرون الحرام رزقا، ولكنه رزق حرام. والناس يقصرون كلمة الرزق على شيء واحد يشغل بالهم دائما وهو (المال) نقول لهم: لا، إن الرزق هو كل ما يُنتفع به، فكل شيء يكون مجاله الانتفاع يدخل فى الرزق: علمك رزق، وخُلُقُك رزق، وجاهك رزق، وكل شيء تنتفع به هو رزق. ساعة تقول: إن كل ذلك رزق تأخذ قول الله: «فَمَا الذين فُضِّلُواْ برادى رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ» «النحل: 71». كأن الله يريد من خلقه استطراق أرزاقهم على غيرهم، وكل إنسان متميز وتزيد عنده حاجة عليه أن يردها على الناس، لكن الناس لا تفهم الرزق إلا على أنه مال، ولا يفهمون أنه يطلق على كل شيء ينتفعون به. إذا كان الأمر كذلك فما معنى «يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» كلمة «بِغَيْرِ حِسَابٍ» لابد أن نفهمها على أن الحساب يقتضى مُحاسِب، ومُحَاسَب، ومُحَاسَب عليه. وعلى هذا يكون «بِغَيْرِ حِسَابٍ» ممن ولمن وفى ماذا؟ إنه رزق بغير حساب من الله؛ فقد يرزقك الله على قدر سعيك. وربما أكثر، وهو يرزق بغير حساب، لأنه لا توجد سلطة أعلى منه تقول له: لماذا أعطيت فلانا أكثر مما يستحق. وهو يرزق بغير حساب؛ لأن خزائنه لا تنفد. ويرزق بغير حساب؛ لأنه لا يحكمه قانون، وإنما يعطى بطلاقة القدرة. إنه جل وعلا يعطى للكافر حتى تتعجب أنت وتقول: يعطى الكافر ولا يعطى المؤمن لماذا؟ إذا استطاع أحد أن يحاسبه فليسأله لماذا يفعل ذلك؟ إنه يعطى مقابلا للحسنة سبعمائة ضعف بغير حساب. إن الحساب إنما يأتى عندما تأخذ معدودًا، فإذا أخذت مثلا مائة من ألف فأنت طرحت معدودًا من معدود فلابد أن ينقص، وعندما تراه ينقص فأنت تخاف من العطاء. لكن الله بخلاف ذلك، إنه يعطى معدودًا من غير معدود. إذن ساعة تقرأ «بِغَيْرِ حِسَابٍ» فقل إن الحساب إن كان واقعا من الله على الغير، فهو لا يعطى على قدر العمل بل يزيد، ولن يحاسب نفسه ولن يُحاسبه أحد. «مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ» «النحل: 96». إذن «يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» تجعل كل إنسان يلزم أدبه إن رأى غيره قد رُزق أكثر منه؛ لأنه لا يعلم حكمة الله فيها. وهناك أناس كثيرون عندما يعطيهم الله نعمة يقولون: ربنا أكرمنا، وعندما يسلبهم النعمة يقولون: ربنا أهاننا. وفى ذلك يقول سبحانه وتعالى: «فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربى أَكْرَمَنِ وأما إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربى أَهَانَنِ» «الفجر: 15-16». كلا. مخطئ أنت يا مَن اعتبرت النعمة إكراما من الله، وأنت مخطئ أيضًا يا مَن اعتبرت سلب النعمة إهانة من الله؛ إن النعمة لا تكون إكراما من الله إلا إذا وفقك الله فى حسن التصرف فى هذه النعمة، وحق النعمة فى كل حال يكون بشكر المنعم، وعدم الانشغال بها عمن رزقك إياها. ونحب أن نفهم أيضا أن قول الله سبحانه وتعالى: «والله يَرْزُقُ مَن يشاء بِغَيْرِ حِسَابٍ» ينسحب على معنى آخر، وهو أنه سبحانه يحب ألا تُقَدِّر أنت رزقك بحساب حركة عملك فقط؛ فحساب حركة عملك قد يخطئ. مثال ذلك الفلاح الذى يزرع ويقدر رزقه فيما يُنْتَجُ من الأرض، وربما جاءت آفة تذهب بكل شيء كما نلاحظ ونشاهد، ويصبح رزق الفلاح فى ذلك الوقت من مكان آخر لم يدخل فى حسابه أبدًا. ولهذا فإن على الإنسان أن يعمل فى الأسباب، ولكنه لا يأخذ حسابا من الأسباب، ويظن أن ذلك هو رزقه؛ لأن الرزق قد يأتى من طريق لم يدخل فى حسابك ولا فى حساباتك، وقال الحق فى ذلك: «وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ» «الطلاق: 2-3».