فى الذكرى 53 لرحيل الزعيم الخالد عبد الناصر فى مواجهة إيزيس وأوزوريس «أمام العرش»

زعماء مصر على غلاف رواية «أمام العرش»
زعماء مصر على غلاف رواية «أمام العرش»

النصر حركة، والحركة عمل، والعمل فكر، والفكر فهم وإيمان، وهكذا كل شيء يبدأ بالإنسان. 

عندما نحتفى بالذكرى 53 لرحيل من لا يرحل من وجدان الشعب المصرى والعربى، أجدنى مدفوعاً لإعادة نشر اللوحة الدرامية التى قدمها عنه أديب نوبل نجيب محفوظ فى كتابه «أمام العرش» الذى أجرى فيه حواراً مع رجال مصر من مينا حتى السادات، ففى هذه اللوحة انعقدت المحكمة بكامل هيئتها المقدسة فى قاعة العدل، أوزوريس فى الصدر على عرشه وإلى يمينه إيزيس، وإلى يساره حورس، وعلى مبعدة يسيرة من قدمَيه تربَّع تحوت كاتب الآلهة، وعلى جانبَى القاعة صُفَّت الكراسى المكسوَّة بقشرة من الذهب، تنتظر مَن سيكتب لهم الخلاص من القادمين، وأومأ أوزوريس إلى حورس، فصاح الشاب بصوت جهورى «جمال عبد الناصر»، فدخل رجل طويل القامة، عظيم الشخصية، ومضى فى سيره حتى وقف أمام العرش.


دعاه أوزوريس إلى الكلام فقال: أنتمى إلى قرية بنى مر من أعمال أسيوط، نشأتُ فى أسرة فقيرة من أبناء الشعب؛ فكابدت مرارة العيش وشظفه، تخرجت فى الكلية الحربية عام ١٩٣٨، واشتركت فى حرب فلسطين، وحوصرت مع من حوصر فى الفالوجا، هالتنى الهزيمة وجذورها الممتدة فى أعماق الوطن، فخطر لى أن أنقل المعركة إلى الداخل حيث يكمن أعداء البلاد الحقيقيون، أنشأتُ فى حذرٍ وسريةٍ تنظيم الضباط الأحرار، ورصدت الأحداث انتظارًا للحظة المناسبة، حققت هدفى فى ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وتتابعَتْ إنجازات الثورة، مثل: إلغاء النظام الملكى، واستقلال البلاد بالجلاء التام، والقضاء على الإقطاع بإصدار قانون الإصلاح الزراعى، وتمصير الاقتصاد، والتخطيط لإصلاح شامل فى الزراعة والصناعة، يستهدف خير الشعب، وتذويب الفروق الطبقية، بنينا السد العالى، أنشأنا القطاع العامَّ متجهين نحو الاشتراكية، وكوَّنا جيشًا حديثًا قويًّا، ونشرنا الدعوة للوحدة العربية، وساندنا كلَّ ثورة عربية وأفريقية، أمَّمنا قناة السويس، فكنا منارة وقدوة للعالم الثالث فى نضاله ضد الاستعمار الخارجى والاستغلال الداخلى، وحظيَ الشعب الكادح فى عهدى بعزة وقوة، ولأول مرة يشعر بأن الأرض أرضه والوطن وطنه، وقد تربَّصَت بى قوى الاستعمار حتى أنزلَتْ بى هزيمة منكرة فى ٥ يونيو ١٩٦٧ فزلزلت العمل العظيم من جذوره، وقضَتْ عليَّ بما يشبه الموت قبل موافاة الأجل بثلاثة أعوام، عشتُ مصريًّا عربيًّا مخلصًا، ومتُّ مصريًّا عربيًّا شهيدًا.
هنا تكلم الملك رمسيس الثانى فقال : دعنى أعرب لك عن عظيم حبى وإعجابى، حبى لك امتداد لحبى لذاتى، فما أكثر أوجُه الشبه التى تجمع بيننا، كلانا يشع عظمة تملأ الوطن وتتجاوز حدوده، كلانا جعل من هزيمته نصرًا فاق كلَّ نصرٍ، كلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة ؛ فأغارَ على أعمال الآخَرين ممَّن سبقوه، وقد ساندنى الحظ بأن توليت عرش مصر وهى سيدة الأمم، أما أنت فحكمتها وهى أمة صغيرة وسط عمالقةٍ، وقد وهبَتْنى الآلهة طولًا فى العمر، وقوة فى الروح والجسد، وضنَّت عليك إلا بالقليل فعاجلَكَ الأجَل قبل الأوان !
وتكلم الملك مينا فقال: ولكن اهتمامك بالوحدة العربية فاقَ اهتمامك بالوحدة المصرية، فحتى اسم مصر الخالد شطبتَه بجرة قلم، واضطررت العديد من أبناء مصر إلى الهجرة التى لم يمارسوها إلا فى فترات قهر عابرة، فقال جمال عبد الناصر: ليس الذنب ذنبى إذا توهَّم بعض المصريين أن الوحدة العربية تعنى الضياع لهم، وليس الذنب ذنبى إذا تحقَّقَت أعمال مجيدة على يديّ بعد أن عجز السابقون عن تحقيقها، فالحق أن تاريخ مصر الحقيقى بدأ مع ٢٣ يوليو ١٩٥٢.


سرت همهمة بين الجالسين وهتف أوزوريس: النظام والهدوء أيها السادة، أفسحوا صدوركم لأىِّ قول يُقال، فقال أبنوم: اسمح لى أن أحييك بوصفى أول ثائرٍ من فقراء مصر، وإنى لأشهد لك بأن الفقراء لم ينعموا بالأمان والأمل فى عهد - بعد عهدى - كما نعموا فى عهدكم، ولا مأخذ لى عليك إلا إصرارك على أن تكون ثورتك بيضاء، على حين كان يجب أن تجرى الدماء فيها أنهارًا، فتساءل الملك خوفو مُحتَجًّا: ماذا يقول هذا السفاح؟!، فقال أوزوريس بحدة: تذكَّر أنك لست على عرشك، اعتذر، فقال خوفو بخشوعٍ: معذرة !


فقال الملك تحتمس الثالث: على الرغم من نشأتك العسكرية فقد أثبتَّ قدرة فائقة فى كثيرٍ من المجالات إلا العسكرية، بل إنك لم تكن قائدًا ذا شأن بأى حال من الأحوال، فقال جمال عبد الناصر: تعذَّر عليَّ النصر على جيش متفوق فى التسليح، ومؤيَّد بأقوى دولة على سطح الأرض، فقال أمحتب وزير الملك زوسر: كان واجبك أن تتجنب الحرب، وأن تكف عن استفزاز الدول الكبرى، فقال جمال: كان ذلك يتناقض مع أهدافى، وقد خُدِعتُ أكثر من مرة، فقال الحكيم بتاح حتب : إنه عذر أقبح من الذنب!
وقال سعد زغلول : لقد حاولت أن تمحو اسمى من الوجود كما محوت اسم مصر، وقلتَ عنى إننى اعتليت الموجة الثورية عام ١٩١٩، فدعنى أحدثك عن معنى الزعامة، الزعامة هبة ربانية وغريزة شعبية، لا تلحق بإنسان مصادفة، ولا كضربة حظ أعمى، والزعيم المصرى هو الذى يبايعه المصريون على اختلاف أديانهم، وإلا لم يكن زعيمًا مصريًّا أبدًا، وإن جاز أن يكون زعيمًا عربيًّا أو إسلاميًّا، بيد أننى رغم ذلك لم أضمر لك الرفض، واعتبرتُ تجنِّيك عليَّ نزوة شباب يمكن التسامح معها نظير ما قدمت من خدماتٍ جليلة، قامت ثورة ١٩١٩ فحقَّقتْ من المآثر ما شهد به التاريخ، ثم جاءت ثورتك فتخلَّصتْ من الأعداء، والشعب باركها ومنحها تأييده، وكان بوسعك أن تجعل من الشعب قاعدتها، وتقيم حكمًا ديمقراطيًّا رشيدًا، فقال جمال: كان يلزمنا فترة انتقال لتحقيق الأسس الثورية، فقال مصطفى النحاس: حجة واهية، كان بين يديك قاعدة وفدية شعبية، عجزتَ عن إقامة بديلٍ عنها؛ فظلَّتِ البلاد تعانى الفراغ، ومددتَ يدك إلى المنبوذين من الأمة؛ فوقعتَ فى تناقُض مؤسِف بين عمل إصلاحى يُعتبر فى روحه امتدادًا لروح الوفد، وأسلوب حكم يُعتبر امتدادًا لحكم الملك والأقليات، حتى قضى أسلوب الحكم على جميع النوايا الطيبة!
فقال جمال عبد الناصر: الديمقراطية الحقيقية كانت تعنى عندى تحرير المصرى من الاستعمار والاستغلال والفقر، فقال مصطفى النحاس: أغفلت الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانًا للفقراء، أفسد الاستبداد عليك أجمل قراراتك، انظر كيف فسد التعليم، وتفسَّخ القطاع العام، وكيف قادك التحدى للقوى العالمية إلى الهزائم المُخجِلة والخسائر الفادحة، ولم تفدْ من الرأى الآخَر، ولم تتعظ بتجربة محمد على !
فقال جمال عبد الناصر: لقد نقلتُ وطنى من حالٍ إلى حال، كما نقلت العرب وسائر الأمم المغلوبة على أمرها، وسوف تُعالَج السلبيات حتى تزول وينساها الزمن ويبقى ما ينفع الناس، وعند ذاك يقر الناس بعظمتى الحقيقية، فقال مصطفى النحاس: ليتك تواضعتَ فى طموحك، وعكفت على إصلاح وطنك، إن تنمية القرية المصرية أهم من تبنى ثورات العالم، إن تشجيع البحث العلمى أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية، لقد ضيعتَ على الوطن فرصة لم تُتح له من قبل، فلأول مرة يحكم ابنٌ وطنى من أبناء البلاد دون مناوئ من ملكٍ أو مستعمر، ولكنه بدلًا من مداواة ابن وطنه المريض دفع به إلى مباراة البطولة العالمية وهو ينوء بأمراضه، فكانت النتيجة أن خسر البطولة!


وهنا قالت إيزيس : إن فرحتى برجوع العرش إلى أحد أبنائى لا تُقدَّر، وإن أعماله الجليلة لتحتاج إلى جميع جدران المعابد لتسجيلها، أما الأخطاء فلا أدرى كيف أدافع عنها، فقال أوزوريس: لو كانت محكمتنا هى صاحبة الكلمة الأخيرة فى الحكم عليك لاقتضانا العدل تأملًا وعناءً طويلين، فقليلون مَن قدموا لبلادهم مثلما قدمتَ من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلتَ من إساءاتٍ، ولكن بالنسبة لأنك أول مَن يجلس على عرشها من أبنائها، وأول مَن يخص الكادحين برعايته، فإننا نسمح لك بالجلوس بين الخالدين لحين انتهاء المحاكمة، وستذهب بعد ذلك إلى محكمتك مُؤيدًا بتزكية مناسبة.
نجيب محفوظ
من رواية «أمام العرش»