يوميات الأخبار

نور القلوب وتنوير العقول

نوال مصطفى
نوال مصطفى

أن تساند خطواتها لتبدأ حياة جديدة وتطوى من ذاكرتها صفحة الآلام. أن تنجح فى إقناع الكثيرين بعدالة القضية التى وهبتها عمرك. وتمتد الأيادى والعقول إليك حماسًا للمشاركة فى هذا العمل الجميل

كان مساء الخميس الماضى مساء للفرحة والأمل. لقاء حميميا تحيطه أجواء المحبة، مشاعر حقيقية من الود الخالص بين كتاب ومثقفين وناشرين من أجيال مختلفة، يلتقون فى صرح ثقافى رفيع، هو دار الأوبرا المصرية، وعلى مسرحها الصغير. كان الحدث الثقافى المهم هو حفل توزيع جوائز مسابقة «روايات مصرية للجيب» وإعلان أسماء الفائزين من نجوم الكتابة الجدد. وكان مساءً مختلفًا للفكر والثقافة.

حيث حرص على الحضور ومشاركتنا الفرحة قامات رفيعة فى مجال النشر، محمد رشاد رئيس اتحاد الناشرين العرب وصاحب الدار المصرية اللبنانية، أميرة أبو المجد، المدير التنفيذى لدار الشروق، الشاعر جمال الشاعر الذى ألقى قصيدة محفزة بعنوان «انجح.. تفرح»، والكاتب أحمد مراد، ولفيف من الأسماء المرموقة فى مجالات الأدب والسيناريو والحوار وصناعة النشر.

كان جميلًا أن نلتقى جميعًا فى هذا المكان الأثير عندى، القريب من قلبى، دار الأوبرا المصرية، التى أعتبرها منارة من منارات مصر المشعة بالثقافة والفن الراقى. وهنا لابد أن أشكر الدكتورة نيفين الكيلانى وزيرة الثقافة التى وافقت على أن يكون هذا الحفل تحت رعاية وزارة الثقافة المصرية، لاعتزازها بتاريخ وأهمية دارنا العريقة فى النهوض بالثقافة.

تملكتنى وأنا أقف على المسرح هناك مشاعر متداخلة، طوفان من الحنين والنوستالجيا، استدعاء لأحداث مرت فى حياتى، وذكريات تدفقت عبر تاريخ العائلة، عائلتى. الجيل الأول قاد مسيرته أبى الناشر الرائد سيد مصطفى، الجيل الثانى انطلق خلاله أخى الناشر العبقرى ليؤسس مشروعا ثقافيا فريدا من نوعه، الجيل الثالث الذى يضع رؤيته بحماس وحب يتقدمه ابن أخى مصطفى حمدى الذى يمثل الحاضر والمستقبل.

وسط هذه الذكريات استحضرت تفاصيل قصة تستحق أن تروى. قصة شاب صغير يملؤه الطموح والشغف لمهنة انطبع حبها فى جيناته، كان فى طفولته يذهب مع والده الناشر الكبير إلى المطبعة، يقف مع العمال، يحدق فى أصابعهم وهى تصف الحروف والكلمات، ينبهر بحركة ماكينات الطباعة وهى تبتلع الورق الأبيض من جهة، ثم تخرجه من الجهة الأخرى كتابًا مطبوعًا.

يسافر هذا الشاب فى رحلة إلى أوروبا، يلفت نظره أن الناس هناك يسيرون فى الشوارع ومعهم كتب صغيرة فى حجم الجيب، يقرأون وهم ينتظرون حافلاتهم أو قطارات المترو، لا يفارقهم الكتاب طوال رحلتهم ذهابًا وعودة.

يثير هذا المشهد غيرته، لماذا لا يفعل شبابنا فى مصر مثلما يفعل هذا الشباب، كيف يصبح الكتاب رفيقًا دائمًا لكل شاب وشابة مصرية؟ يعود إلى مصر لكن عقله لا يتوقف عن التفكير، كيف يمكن تحويل هذا الحلم إلى حقيقة؟

تمر السنون ويرحل الأب، يتسلم الشاب الممتلئ بالحماس والطموح الراية بعد والده، متكئاً على رصيد مشرف فى مجال النشر والمعرفة لمؤسسة رائدة. يغامر الابن بتنفيذ فكرة من الصعب أن يتحمس لها ناشر آخر، فالكل يبحث عن الربح، ويراهن على الحصان الكسبان.

لكنه يفعل، ينشر إعلانًا فى جريدة الأهرام عام 1984 يطلب فيه أن يتقدم بعمله من يجد فى نفسه موهبة حقيقية فى الكتابة أو الرسم. ينقب بنفسه بين الأعمال، ويخرج الدرر بإحساس عالٍ بالتميز. يتبنى تلك الجواهر، يحيطها بالرعاية الكاملة والاهتمام، لا يطلب منهم سوى الكتابة المستمرة والإبداع.

يبتكر فكرة جديدة فى النشر، وهى فكرة السلاسل، يقبل الشباب عليها، ويحقق نجاحًا فوق ما توقعهم ينتظر الشباب العدد الجديد من ملف المستقبل، ما وراء الطبيعة، فلاش، وغيرها من السلاسل بترقب وشغف. يتسابقون من يكمل كل أعداد السلسلة؟ ويتباهى من لديه العدد الناقص عند صاحبه.

هذا الشاب الذى أحكى جزءًا من قصته الطويلة هو الناشر العبقرى حمدى مصطفى الذى رحل عن عالمنا يوم 21 سبتمبر 2011 تاركًا إرثًا عظيمًا من الثقافة، ومشروعًا محترمًا لبناء الوعى لدى شباب مصر. المسئولية بعد وفاته كانت ضخمة، والتحدى لا يزال كبيرًا، فالشخصيات الآسرة الفريدة من الصعب أن تتكرر.

يأتى الجيل الثالث لمؤسسة تجاوز عمرها المائة عام، يقوده مصطفى حمدى، الشاب الطموح الذى ورث عن والده حب الثقافة وشغف المعرفة، لم يكن الحفاظ على ما تحقق هو التحدى الوحيد أمامه، بل كيف يخطو بكل هذا خطوات وخطوات صوب المستقبل، كيف يطور الصناعة لتتماشى مع لغة العصر، كيف يؤسس لنسخة عصرية من روايات مصرية للجيب تستخدم المحتوى المكتوب المطبوع من خلال وسائط معرفية عديدة أتاحتها التكنولوجيا الحديثة؟

قدم مصطفى حمدى فى الحفل عرضًا لتلك الرؤية العصرية، التى تجدد دماء المؤسسة العريقة وتحفظ لها ريادتها دومًا. تكلم عن الوسائط الحديثة للنشر، فلم يعد الكتاب الورقى فقط هو وسيلة المعرفة والحصول على الثقافة، بل أصبح الكتاب الإلكترونى والمسموع وسائط تتوازى وتتكامل مع الكتاب الورقى، وتضمن له انتشارًا واسعًا وسط أجيال الشباب.

مشوار أمل

هل هناك شيء أجمل من هذا؟ أن تمتد يدك لتشد يد إنسان غمرته مياه اليأس وكاد أن يفقد الأمل فى وجود ضوء صغير فى آخر النفق؟ أن تتمسك بتلك اليد الخائفة المتوسلة وتتشبث بها، تجذبها بكل قوة، حتى تخرجها من هذه البئر العميق الكئيب. أن تسير معها فى دروب الظلام بحثًا عن نقطة ضوء.

أن تساند خطواتها لتبدأ حياة جديدة وتطوى من ذاكرتها صفحة الآلام. أن تنجح فى إقناع الكثيرين بعدالة القضية التى وهبتها عمرك. وتمتد الأيادى والعقول إليك حماسًا للمشاركة فى هذا العمل الجميل. أن ترى البذور التى زرعتها فى حديقة الخير والإنسانية تزدهر وتتفتح وتصبح ورودًا فواحة برائحة الحب وزخات الأمل.

احتفلنا فى النصف الأول من سبتمبر بنتائج مشروع «حياة جديدة» تحت عنوان «مشوار الأمل». اخترت مع فريق العمل المؤمن برسالته هذا العنوان لأننا وجدناه يعبر عن الرحلة الطويلة التى قطعناها، والنتائج الرائعة التى حصدناها.

لم نكن وحدنا، فلا يمكن أن تتحقق الأهداف الكبيرة النبيلة بجهد شخص واحد، أو مؤسسة واحدة، لكن بقدرة هذا الشخص، أو تلك المؤسسة على إقناع آخرين بأن يشاركونا الحلم، ويصنعوا معنا قصة ملهمة تبقى فى ذاكرة الإنسانية.

وقد منحنى الله كنزًا عظيمًا منذ أن احتلت قضية أطفال السجينات، ثم قضية سجينات الفقر تفكيرى، واستوطنت قلبى ومشاعرى. كنز من البشر الذين دعموا رسالتى وساندوا خطواتى، على رأسهم الدكتورة نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعى، التى فعلت ذلك بكل إيمان وحب وحماس للقضية، حتى قبل أن تتولى مسئولية وزارة التضامن، لم تبخل علينا بالدعم والمساندة لأفكار ومشروعات «جمعية أطفال السجينات».

فالوزيرة تمارس عملها بروح العاشقة للمجتمع المدنى الذى كانت قبل الوزارة أحد أهم رموزه، ونشطائه المؤثرين. لذلك فهى تعطى بلا حدود من خبرتها الطويلة، ووقتها الثمين لكل فكرة جادة تحمل رسالة نبيلة لخدمة وطننا الغالى.

كذلك كانت القيادات المتعاقبة فى مؤسسة دروسوس الرائدة للتنمية من أكثر الداعمين، الذين شاركونا الحلم، وصنعوا معنا فارقا فى حياة نساء استحققن أن ننتصر لهن، لذلك أحمل تقديرًا خاصًا لتلك المؤسسة التى تشارك فى العديد من مشروعات التنمية المهمة والمؤثرة على أرض مصر، وغيرها من الدول العربية الشقيقة. تشرفت بالعمل منذ عام 2014 مع الأستاذ أشرف عيد، ثم الدكتورة وسام البيه، منى غندر، ثم الأستاذة ياسمين اليساندرو.

وكانوا جميعهم زملاء أعزاء قدموا خبراتهم الغنية فى المشروعات التنموية بكل حب لمشروعنا المشترك «حياة جديدة». ونتيجة لنجاح المشروع فى مرحلته الأولى، تمت الموافقة على أن يكون هناك امتداد للمشروع، فكانت المرحلة الأولى لمدة أربع سنوات، والمرحلة الثانية لمدة ثلاث سنوات، شراكة أصيلة، قوية، مؤثرة سنظل نعتز بها دائمًا كأحد أهم مشروعات جمعية «أطفال السجينات».

لقد قطعنا جمعية أطفال السجينات، ومؤسسة دروسوس مشوار الأمل معًا، يدًا بيد، نتشارك بالفكر، والحلول، وليس بالتمويل فحسب، لكى نحقق أهدافًا حقيقية على الأرض، ونغير من أحوال نساء عانين كثيرًا وكان واجبًا علينا أن نخفف من تلك المعاناة، ونزرع الأمل فى حياتهن. احتفلنا بنساء رائعات، عشن معهن قصصن الملهمة فى حفل جمعية أطفال السجينات. نساء وأطفال حققوا المستحيل وقفزوا فوق الألم ليصنعن «حياة جديدة».

إعلان محمد صلاح

أعجبنى جدًا إعلان محمد صلاح، وكانت لقطة ذكية، تحمل حسًا وطنيًا منه وحبًا لبلده مصر أن يختار مدينة الإسكندرية كلوكيشن للتصوير. اللقطات التى تظهر كورنيش الإسكندرية، والأكلات الشعبية المشهورة بها الحواوشى، والكشرى، وغيرهما. كل هذا يحسب لنجمنا الكبير محمد صلاح. لكنى كنت أتمنى أن يصور المشاهد بنفسه، كانت سوف تعطى حميمية أكثر، ومصداقية أجمل. تم التصوير بالذكاء الاصطناعى وهذا ليس سيئًا، لكنه ليس أفضل شكل يخرج به إعلان مثل هذا.

كلمات:

الأجوبة لا تزيل الظلام، الأسئلة هى التى تزيله. أوجين يونسكو.

الحياة ليست ما يعيشه أحدنا، وإنما هى ما يتذكره، وكيف يتذكره، ليرويه. جابريل جارسيا ماركيز.

علمنى الكتاب أنه بالقراءة يمكننى العيش بشكل أكثر كثافة. يمكن أن يعيد لى البصر الذى فقدته. لهذا السبب يجب أن يقدم الكتاب نفسه كتحدٍ. وليس كتسلية. ولهذا السبب عندما نقرأ كتابًا عظيمًا حقًا، لا ينتهى الكتاب فى الصفحة الأخيرة، الكتاب هو مرحلة واحدة فقط فى حوار مدى الحياة بين القارئ والمؤلف، يبقى الكتاب حيًا من خلال المحادثات التى أجراها مع الكتب الأخرى، كل من سبقوه، ومن يتبعوه. جمال القراءة هو أننا لا ننتهى من كتاب واحد، يمكننا دائمًا العودة إليه، ونكتشف أشياء جديدة. أومبرتو إيكو.

بعض النهايات مرة كالقهوة، لكنها تجعلك شخصًا مستيقظًا، متنبهًا. محمود درويش