أتابع هنا ما بدأته الأسبوع الماضى من تغطية لاحتفالية مركز الجيزويت الثقافى بالإسكندرية بمائة عام على رحيل فنان الشعب الشيخ سيد درويش، والتى استمرت فى الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر فى مقر المركز بكليوباترا - الإسكندرية.
شهد اليوم الثالث فاعليتين، الأولى محاضرة مفتوحة للفنان أحمد حافظ عضو فرقة مسار إجباري. فاجأت الكهرباء الجميع بانقطاعها لساعتين بدلا من الساعة المعتادة ليتأخر موعد بدء المحاضرة ساعة كاملة أمضيناها فى ساحة الكافيتيريا إلى أن عادت الكهرباء وصعدنا إلى قاعة الأخ فايز حيث كان حافظ فى انتظار الجمهور خلف طاولة طويلة حملت جهاز اللابتوب الخاص به وميكسر صغير للتحكم فى الصوت وخلفه شاشة تعرض صورا ومقاطع فيديو مختارة من جهاز اللابتوب.
اقرأ ايضاً| شهاب طارق :بعد إعلان القائمة القصيرة مرشحون لكتارا: اعتراف وتحفيز على الكتابة
عرض حافظ لتجارب جماعية وفردية سكندرية استلهمت ما أسماه «روح سيد درويش الحرة المغايرة للسائد وللسوق»، وكانت هذه التجارب هى تجربة الفنان خالد شمس وفريق الرفاق، وتجربة الفنان فادى إسكندر، وتجربة فرقة الحب والسلام ومؤسسها نبيل البقلى، وكذلك لتجربة فريق مسار إجباري، وكلها تجارب شارك فيها حافظ وتقاطعت مع مشواره الموسيقى والفني.
لكن فى سبيل الوصول إلى هذه التجارب استعرض حافظ سريعا تطور الموسيقى عبر العصور مركزا على نقاط مهمة وفارقة فى القرن العشرين، وفى الحالة المصرية ركز على سيد درويش والفرق الموسيقية التى ظهرت فى الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، مع تقديم مقاطع من أغنياتهم وصور للفنانين فى محاضرة نالت إعجاب وتقدير الحاضرين.
بعد المحاضرة انتقلنا سريعا إلى مسرح الجراج لحضور حفل موسيقى لأهالى كوم الدكة قدموا فيه نماذج من أغانيهم التراثية وأغانى سيد درويش الذى يفخرون به فى إحدى أغنياتهم قائلين: «كوم الدكة حيِّنا، سيد درويش من عندنا»، وكذلك قصائد ألقاها الشاعر الشعبى فتحى الجمال، ونص محكى للأستاذ محمد عبد الستار، وكان تفاعل الحاضرين وخاصة من جاء من حى كوم الدكة حميميًا ومرحًا للغاية.
فى اليوم الرابع قدم الفنان حازم شاهين حفلا غنى فيه وحده على عوده عددا من أغنيات سيد درويش الشهيرة وسط تجاوب كبير من الحضور الذين فاض بهم مسرح الجراج فوضعت إدارة المركز شاشة فى ساحة الكافيتيريا لمن لم يتسع لهم المسرح.
أما فى اليوم الخامس فعرض الباحث محمد أمين فى قاعة المسرح الإيطالى ثلاثة أفلام قصيرة: فيلم ترحيب الأمة المصرية بعودة سعد باشا زغلول للمخرج محمد بيومى (1894-1963) الذى وضع لوحة فى بداية الفيلم توضح أنه أول شريط يقوم بإدارته مصرى عن مصريين، ويصور الفيلم الصامت -الذى يبلغ طوله سبع دقائق ويعتبر أحد أعداد جريدته السينمائية التى حملت اسم آمون- حشود المصريين فى شوارع المنشية بالإسكندرية فى انتظار عودة سعد زغلول من المنفى، وهى الأيام التى صادفت وفاة سيد درويش الذى عاد إلى مسقط رأسه ليكون فى استقبال الزعيم العائد، ليستقبله الموت بدلا من ذلك. كما عرض فيلم تسجيلى بعنوان فن مقاومة الاحتلال لنور البسطاويسي، وفيلم أصوات مريعة لفيليب رزق.
وتبع عرض الأفلام مناقشة مع الحضور حول تأثير ثورة 19 على أعمال سيد درويش وعلى فن السينما الناهض وأعمال بيومي، وانكسار الثورة وما تبعه من تحولات فى المشهد الثقافى والفنى.
فى اليوم السادس عرض نادى سينما الجيزويت فيلم سيد درويش للمخرج أحمد بدرخان وأعقب عرض الفيلم مناقشة مع الحضور أدارها المخرج على نجاتى وكان المناقش الأساسى فيها المترجم والكاتب محمود راضي، واشتبك فيها الحضور حول مدى واقعية الفيلم أو انحيازه لجانب من حياة سيد درويش فى مقابل خفته فى التعامل مع أغانيه وسياقاتها ومشواره الموسيقى.
شهد اليوم السابع عودة انقطاع الكهرباء إلى ساعة واحدة فقط لتقام الفاعلية الأولى هذا اليوم فى موعدها فى السادسة، وكانت محاضرة تفاعلية قدمها د. محمد حسنى عن المسرح الغنائى وإسهام سيد درويش فيه. مع عزف نماذج من أعماله دعا حسنى الحضور الذى ملأ قاعة الأخ فايز إلى غنائها معه وسط تفاعل كبير. ثم فتح نقاش وجه فيه الحاضرون أسئلة حول حياة سيد درويش وأعماله أجاب عنها المحاضر موضحا إجاباته أحيانا بنماذج أخرى من أعمال سيد درويش الغنائية.
بعد المحاضرة انتقل الحضور لينضموا إلى الجمهور الذى ملأ مسرح الجراج لحضور العرض المسرحى خفيف الروح للمخرج أحمد أبو النصر وأعضاء مدرسة برفورم للفنون. دارت فكرة العرض حول فرقة مسرحية تحاول تقديم عمل عن سيد درويش لكنها لا تملك نصا تقدمه ويتهرب مؤلف الفرقة من الكتابة، لتنغمس الفرقة فى تقديم حكايات أفرادها الشخصية وعلاقاتهم العاطفية مستخدمة أغانى سيد درويش كتعليقات أو كنصوص بديلة للتدريب عليها فى غياب النص المسرحى إلى أن يكتشفوا فى النهاية أن ما قدموه من هذه اللوحات هو العرض الذى يبحثون عنه.
بدأ اليوم الثامن فى الساعة الرابعة بتجهيز سمعي/بصرى للفنان إسلام شبانة حمل عنوان: الذاكرة الشبحية لأصداء الجدران. ويستخدم العمل «مقاطع من أناشيد وطقاقيق لسيد درويش جرى تمديدها وترديد صداها فى فراغ تخيلى حتى تراكمت الأصوات فوق بعضهاوأصبحت مقطوعة قائمة بذاتها. أما الصورة فتستخدم مسحًا ثلاثى الأبعاد لجدران بورصتين شهدتا الشيخ سيد درويش يغنى بين جدرانهما» بحسب بامفلت العرض. وإسلام شبانة فنان متعدد/متقاطع التخصصات ومصمم ميديا رقمية. ويعمل حاليا كأستاذ بقسم الفنون البصرية فى الجامعة الأمريكية بالقاهرة.
وفى السادسة أقيمت بقاعة الأخ فايز ندوة بعنوان «عصر سيد درويش» أدارها كاتب هذه السطور وتكلم فيها الباحث والكاتب كريم جمال والمترجمة والباحثة نرمين نزار عن ملامح تاريخية واجتماعية أثرت فى تكوين الشيخ سيد درويش وصنعت ملامح عصره بداية من القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين.
وتحدث الباحثان عن الأساطير التى صُنعت حول فنان الشعب سواء حول حياته أو أعماله، وحول الأشخاص البارزين والمؤثرين فى مسيرته وكذلك من تأثروا بمدرسته الموسيقية والفنية من مجايليه وتلاميذه واللاحقين من الفنانين. وتبع ذلك مناقشة مفتوحة مع الحضور الذين اشتبكوا بالتعليق والتساؤل والاختلاف والاتفاق حول نقاط معينة من الندوة التى استمرت ساعتين تقريبًا.
أكتب هذه الكلمات فى صباح اليوم الأخير من الفاعلية التى تُختتم بسهرة أقرب لسهرات الصهبجية، حيث يقود الفنان أيمن عصفور مجموعة صغيرة من العازفين على الآلات الشرقية مع مجموعة كبيرة من المغنين والمرددين (الذين يتبادلون الأدوار بين الترديد كالكورال والغناء الفردي) فى وصلة غنائية وآلية تمزج بين التقاسيم الحرة على مقام الراست المهيمن كذلك على المواويل والموشحات والدور الأساسى الذى ستقدمه المجموعة: الحبيب للهجر مايل،للشيخ سيد درويش.
حضرت بروفة كاملة قبل الحفل بيومين واندهشت فى الحقيقة من مقدار التقدم الذى أحرزه عصفور فى شهر ونصف فقط مع مجموعة أغلبها من غير المحترفين سواء للعزف أو للغناء. تجربة تستحق التشجيع والتحية بالفعل، ليس فقط لمقدار الجهد المبذول، لكن أيضا لمحاولة إحياء هذا الشكل من الوصلات الموسيقية الذى انتهى مع دخول زمن الأسطوانات وحفلات المطربين النجوم. وربما تكون هذه السهرة خير ختام وتحية لروح هذا الفنان الكبير فى مئوية رحيله.