صاحبة الجلالة تضىء 100 شمعة احتفاءً بمئوية «الأستاذ»| «هيكل» فى حوار نادر يكشف أسراره لجليل البندارى

محمد حسنين هيكل يتحدث فى تليفون مكتبه
محمد حسنين هيكل يتحدث فى تليفون مكتبه

تحتفى الأوساط الصحفية السبت القادم بمئوية ميلاد محمد حسنين هيكل الكاتب الصحفى الأشهر بلقب «الأستاذ» والأكثر تأثيرا فى بلاط صاحبة الجلالة، فهو من مواليد 23 سبتمبر 1923، ومنذ بزوغ نجمه فى عالم الصحافة والكتابة عنه لا تتوقف سواء بالمدح أو الذم، وفى هذه المناسبة تسترجع صفحة «كنوز» حوارا نادرا أجراه معه الناقد الكبير جليل البندارى بعد 6 سنوات من انتقال «هيكل» من رئاسة «آخر ساعة» إلى رئاسة «الأهرام»، الحوار شغل 4 صفحات من «آخر ساعة» بعنوان «هيكل الذى يندفع إليك من تحت عقب الباب»، ونقتبس منه ما يناسب المساحة خاصة وان «البندارى» كتب مقدمة طويلة جدا بأسلوب بديع ورشيق يقدم من خلالها وصفا تفصيليا للأستاذ «هيكل» كما لا يعرفه القراء، ويقول فيها: 

- إن بائع الخبز وبائع اللبن وبائع الفول المدمس يدقون جرس الباب ويقلقون راحتك، أما محمد حسنين هيكل إذا وجد بابك موصدا، استحى أن يدق الجرس، واندفع إليك من تحت عقب الباب! فى كل يوم جمعة يحملك فى قطار سريع كقطار اللونابارك، فيهبط بك إلى الأعماق ثم لا يلبث أن يرتفع بك إلى قمم الهملايا، لتطل معه بعينيك على أحداث العالم، فى رحلة لا تستغرق من وقتك أكثر من نصف ساعة، ولكنك تكون خلالها قد رأيت وسمعت كل ما تحب أن تعرفه من أنباء بلادك وبلاد العالم العربى، والبلاد النائية بعيدا بعيدا فى الشرق أو فى الغرب.

منذ ست سنوات سمعنا أنه سيترك رئاسة «آخر ساعة» ليتولى رئاسة «الأهرام»، وتساءلنا جميعا، كيف يترك هيكل الذى عاش عمره الصحفى على ظهور الطائرات، يجرى وراء المدافع والقنابل أينما تنطلق، فى حرب فلسطين والحرب الأهلية فى اليونان والحرب الكورية؟، كيف يترك داره المتحركة مثله ليتولى رئاسة «الأهرام» المحافظة، وكيف يمكن أن يتجاوب ويتفاهم مع الصحفيين من ذوى الطرابيش الحمراء والياقات المنشاة والقفازات والبابيونات، ونحن الذين عشنا معه أكثر من عشر سنوات كنا نعتقد أنه لن يبتعد عنا أكثر من ستة أشهر، ذهب هيكل وكان أول مقال يكتبه بعنوان: «الجمود يتحرك»، وفى أحد الاجتماعات نظر إلى ذوى الطرابيش الحمراء والياقات المنشاة، وقال لهم بصراحة:

«نفسى أشوف واحد فيكم يبتسم، وتحرك الجمود، وبدأت الابتسامات ترتسم على وجوههم فى الاجتماعات التالية، وانتقلت من الوجوه إلى أساليب الكتاب والمحررين إلى حروف المطبعة، وأخذ الجمود يتحرك يوما بعد يوم وأسبوعا بعد أسبوع، ومضت سنة وراءها سنة ولم يعد هيكل إلينا، واحتفل محررو الأهرام بمناسبة مرور عشرين عاما على اشتغال هيكل بالصحافة، ودعانى على الجمال لحضور هذه الحفلة، وكنت الصحفى الوحيد الغريب الذى حضرها، وقد ترددت فى الذهاب خوفا من الجلوس بجوار ذوى الطرابيش الحمراء والياقات المنشاة، ولكنى فوجئت بالقمصان الاسبور والضحكات الرنانة والمسابقات الطريفة، عثمان العنتبلى يقلد زملاءه من أول رئيس التحرير لغاية نفسه، وأحمد بهجت يختبر معلومات رئيسه فى الصحافة، وكمال الملاخ يرقص عشرة بلدى، وعبد الحليم حافظ يغنى بالأحضان ويرددها معه جميع محررى الأهرام، ويغنوا «وحياة قلبى وأفراحه» ويقوم معهم عبد الحليم بدور الكورس!

فقدنا نحن القلم الساحر الذى كان يجرى على أوراقنا فى خفة ورشاقة فيحيل العبارات الجافة إلى جمل وعبارات موسيقية، ويضيف للمعلومات التى نقدمها أشياء لم تكن تخطر لنا على بال وهو يقول « إذا اردت أن تكتب فى النقطة الفلانية اقرأ كتاب فلان وعلان وترتان، لا تكتف بمعلوماتك ولا تعتمد على ذاكرتك، اعتمد على الحقائق والأرقام، «آخر ساعة» مجلة مصورة وعيب جدا أن تنشر فيها صورة من الارشيف، مهمتك كصحفى أن تقدم للقارئ أقصى ما يمكن من العلم والثقافة والمعرفة، وكل شيء يقع تحت بصرك يصلح لأن يكون مادة صحفية».

ويستطرد جليل البندارى قائلا: ذهب هيكل إلى «الأهرام» ومعه لسانه الحلو وقلبه الأبيض الذى يغضب أحيانا ويصفح بسرعة، فقدنا دعوات الغداء فى حمامات السباحة ونادى اليخت وكباب أبو شقرة وفتة الركيب، فقدنا الخزانة المفتوحة ليلا ونهارا التى كانت تسلفنا النقود بلا إيصالات ولا تنتظر السداد، كانت حافظة نقود هيكل مفتوحة لنا كقلبه دائما، كان كل منا يأخذ ما يحتاج إليه فقط، ففينا صلاح هلال الذى لا تتطاول يده إلى أكثر من خمسة وعشرين قرشا، وفينا حنفى عاشور الذى إذا تناول جنيها صحيحا يتزوج ويصبح أسعد مخلوق فى الدنيا، وفينا توفيق بحرى الذى يأخذ اثنين جنيه على أربع دفعات فى الشهر،اما أنا فكنت اقترض مبالغ تتراوح بين ثلاثة وخمسة جنيهات، كنت أكبر محرر فى السن والمرتب، وكان هيكل يحترمنى كما يحترم المدرس تلميذه الذى يكبره فى السن، ولم يكن هيكل يقبل أن يسترد مليما مما يوزعه علينا قبل أن يتزوج، كان يعتبر هذه المبالغ بمثابة مكافآت تشجيعية.

ويروى البندارى حكاية متعلقة بالموضوع فى عام 1951 عندما دخل على «هيكل» مكتبه عابس الوجه، وعلم منه «هيكل» أنه طلق زوجته برغم أنه يحبها، فطلب منه أن يذهب ليرجعها إليه ونهض ليدفعه نحو الباب والبندارى مترددا فى الخروج، وقرأ «هيكل» بذكائه ما يدور فى رأس البندارى، فأخرج حافظة نقوده التى وجدها خالية فجذبه من ذراعه إلى سيارته الأوبل السوداء، التى أوقفها أمام منزله وانتظره البندارى داخلها، وعاد بعد دقائق، وقبل أن ينطلق بالسيارة أخرج حافظة النقود، وطلب من البندارى أن يأخذ ما يكفيه منها لكى يدفع للمأذون، وكان بها 250 جنيها ولم يسمح له بالعودة إلى مكتبه إلا إذا رأى القسيمة الجديدة موقعة بإمضاء المأذون!.

ويقول جليل البندارى: هذا هو هيكل قبل الزواج، أما هيكل بعد الزواج، فقد تغير تغيرا كاملا، ولم يعد يبعثر نقوده على المحررين الذين يعملون معه، وأصبح يرى أن من حق الصحفى أن يحصل على المكافأة التشجيعية من الدار التى يعمل بها، ولم يؤشر فى حياته بالرفض على ورقة تقدم بها محرر طالبا مكافأة أو سلفة أو علاوة !.

ويتذكر جليل البندارى أن «آخر ساعة» صدرت صباح 15 أبريل 1952 وبها مقال بقلم هيكل بعنوان «حديث صريح عن صحافة مصر»، لم يعجب بعض أعضاء النقابة فثاروا وهاجوا وطالبوا بإحالته إلى مجلس التأديب، فكتب مقالا أشد عنفا بعنوان «أحالونى إلى مجلس تأديب» يقول فيه «إن نقابة الصحفيين يجب أن تتقدم للمسئولين بالمطالب الآتية: «وقف المصروفات السرية للصحفيين إذا كانت باقية لم تلغ إلى الآن، نشر كشوفات المصروفات السرية فى كل العهود الماضية، تأليف لجان قضائية تفحص حسابات جميع الصحف لتعرف مصادر تمويلها، وإنى لا أريد أن أدخل فى مهاترة، بالألفاظ ولا أريد أن أتهم أحدا أو اتجنى على أحد، إنما أريد الحقيقة لأنى أريد أن تبقى صحافة مصر عزيزة مجيدة على نفس المستوى العالى الذى سجله لها طليعة من روادها.

ويقول: شهدت «أخبار اليوم» علاقة صداقة متينة بين هيكل وتوفيق الحكيم، وكلاهما على النقيض من الآخر، فالحكيم مغامراته فى رأسه، وهيكل مغامراته خارج رأسه، والحكيم يجوب العالم بالكتب والتأملات، وهيكل يجوب العالم بجسده وحواسه، ولم يكن الاثنان قد تزوجا بعد، وفى تلك الأيام وضع الحكيم قانونا جديدا للبخل، كان يقول لهيكل: «اليوم اللى تغدينى فيه أدفع أنا السينما، وإذا اخترت المطعم أختار أنا الطبق»، فإذا ذهبا إلى سميراميس، فالحكيم يختار سندوتشين جبنه! وعندما سألت هيكل على أخلد أعمال توفيق الحكيم قال «عودة الروح ويوميات نائب فى الأرياف».

قلت لهيكل: أريد كشفا جديدا للفرق بين شخصيتى مصطفى أمين وعلى أمين؟ فقال: «هناك خرافة شائعة تقول إن مصطفى أمين هو صانع «أخبار اليوم» والحقيقة إن على أمين صانعها، هو الذى بنى المسرح ومصطفى أمين هو الممثل الأول فيه».

وعندما سألته عن أول فرصة نالها من الأستاذ التابعى، قال «زمان فى آخر ساعة سنة 1944 أخطأ أحد المترجمين فى موضوع عن نجمة السينما الأمريكية «جيل باتريك» واعتبرها رجلا، فى عدد ممتاز عن السينما، وذهبت يوم صدور العدد إلى «آخر ساعة» وأنا سعيد ففوجئت بخطاب على مكتبى، ظننته خطاب شكر من الأستاذ التابعى لأن العدد لم تظهر فيه غلطة واحدة فإذا به يقول لى «عزيزى هيكل.. هذه أول مرة فيما أعلم تتحول فيها امرأة إلى رجل بسن قلم، وكنت أظنها تحتاج إلى سن جراح»، دخلت لأتفاهم معه لكنه رفض أن يعطينى فرصة، فقد كان يعتقد أنه أبدى رأيه فى الموضوع وانتهى الأمر ! 

وقال الأستاذ «هيكل» لجليل البندارى فى الحوار أن أول نجم التقى به فى حياته الصحفية هو نجيب الريحانى عندما أجرى معه حوارا عام 1943، ونشأت بينهما صداقة، ونصحه الريحانى بالتوقف عن الكتابة عن المسرح لكى لا يضيع وقته، وقال إن أول نجمة أجنبية التقى بها هى «لانا تيرنر» فى لوس انجلوس، وعرفته عليها الملكة السابقة «نازلى»، وروى للبندارى تفاصيل مشكلة زواج الأميرة فتحية من رياض غالى عام 1950 التى شغلت الرأى العام فى مصر واغضبت الملك فاروق الذى حرم والدته «نازلى» من مخصصاتها الملكية وغضب عليها !

واعترف «هيكل» انه يقرأ كل الصحف اليومية والأسبوعية العربية والأجنبية، وعندما ضاق وقته بدأ يحذف من قراءاته القصص، إلا إذا كانت لها علاقة بالسياسة، وحذف أخبار الفن أيضا، وأصبح لا يقرأ المجلات، إنما يلقى عليها نظرة سريعة خاطفة، يقرأ أخبار الأدب ولا يقرأ أخبار الأدباء، ويتناول مع الإفطار نشرات الأخبار التى تذاع من جميع محطات الإذاعة من السادسة والنصف صباحا إلى الثامنة والنصف، وفى المساء من الحادية عشرة إلى الواحدة صباحا، وليس لديه وقت للأغانى ولا الموسيقى ولا التمثيليات، وأقلع عن مشاهدة المصارعة، لكنه يواصل رياضة السباحة والمشى، وطرح وجهة نظره فيما أثاره الأستاذ التابعى حول اقتباس محمد عبد الوهاب للألحان الغربية، وقال «فليقتبس أو يلطش بعض نغمات العباقرة، فإن ذلك لن يقلل من قيمة دوره فى تطوير الموسيقى فى هذه المرحلة من التطور الفنى العام، ووصف أم كلثوم بأنها صوت عميق انطلق من أرض الريف وشق طريقه إلى القمة، وهى تمثل قدرة الفلاح على الانطلاق وقدرته على الثبات وتأكيد مكانه، وقال إن صوت عبد الحليم حافظ يشكل نبرة حنان فى وسط ضجيج عالٍ، وأكد أنه يعتز جدا بالحكمة اليابانية التى تقول «الرحلة اللى طولها ألف ميل تبدأ بخطوة واحدة».

ويختتم جليل البندارى حواره المنشور مع الأستاذ «هيكل» بأنه لا يؤذى إنسانا ويكره الإضرار بالناس، وكان يقول لمن يعملون معه فى «آخر ساعة» من زملاء وتلاميذ: 

«لا تلتفتوا إلى من يسيئون إليكم، ففى التفاتكم إلى الوراء وأنتم تجرون، تتعطلون عن الجرى والوصول إلى أهدافكم».

جليل البندارى  «آخر ساعة» 5 ديسمبر 1962