عبد الرحيم يوسف يكتب : مع الشيخ سيد.. على قد الليل ما يطوِّل

أسامة حلمى
أسامة حلمى

حين ذهبت فى منتصف يوليو الماضى إلى مركز الجيزويت الثقافى ب الإسكندرية بعد دعوة كريمة من منسقة البرامج بالمركز الفنانة تقى قطايا للقاء تنظيمى حول الاحتفال بمئوية سيد درويش، فنان الشعب، بعد اقتراح اسمى من بعض الأصدقاء، كنت أعتقد أنه لقاء واحد نتبادل فيه الأفكار وأقترح فيه اسم ندوة لمناقشة كتاب واسم ضيف أو اثنين. لكن اللقاء كان ممتعًا ومثيرًا لنقاشات واقتراحات تطلبت أن يتكرر اللقاء عدة مرات داخل المركز حتى بعد أن بدأت أجازته الصيفية مع بداية شهر أغسطس.

ظللنا نجتمع يومين أو ثلاثة فى الأسبوع حتى منتصف أغسطس، برعاية كريمة من الأب ماريو بولس مدير المركز وطاقم العمل كله، حين اكتملت ملامح البرنامج والاحتفالية التى رأينا أنها محاولة تليق بالذكرى المئوية لرحيل هذا الفنان الكبير صاحب الأثر الممتد رغم عمره القصير.

اقرأ ايضاً| بدور القاسمى تدعو لمواجهة التمييز فى بيئة النشر

ضمت اللجنة المتطوعة الفنان أسامة حلمى (ؤزؤز) والفنان الموسيقى أيمن عصفور والباحث والكاتب كريم جمال والباحثة والمترجمة نرمين نزار والفنانة ياسمين حسين إلى جانب كاتب هذه السطور.

كانت الفكرة العامة التى اشتغلنا عليها تقوم على ثلاثة جوانب: امتداد الاحتفالية لتسعة أيام فى الفترة من 11 إلى 20 سبتمبر لاعتقادنا أن المناسبة الكبيرة تتطلب ما هو أكبر من أشكال الاحتفالات المعتادة التى تقتصر على حفل أو ندوة أو حدث واحد فى يوم معلوم، ثم الاستفادة من تعدد أشكال النشاط فى المركز من مسرح وسينما وقاعات ندوات ومعارض للفنون بالإضافة إلى نشاطه الشهرى نفسه الذى يضم ناديًا للسينما وآخر للكتاب، وأخيرًا أن نحاول عبر الفاعليات تكوين صورة أشمل عن جوانب إبداع فنان الشعب والمؤثرات والمكونات التى صاغت منجزه الكبير كوسيلة لفهم السياق الصانع لهذا المنجز، وعدم الاكتفاء بالكلمات الإنشائية المكررة عن العبقرية الفذة والإبداع غير المسبوق والتجربة المهدرة.. لأنه لا توجد عبقرية تنشأ فى فراغ، أو لا تنبنى على أسس سابقة ومتوازية معها، ولكن تكرار العبارات المحفوظة يخلق أساطير تتحول مع الوقت إلى ثوابت. وقد سمحت حياة سيد درويش نفسها ومساحة إبداعه المتميزة بترسيخ الكثير من الأساطير حوله، حيًا وميتًا.

يضم برنامج الاحتفالية أربع حفلات موسيقية للفنانين حازم شاهين وأيمن عصفور وياسين محجوب وأهالى كوم الدكة مسقط رأس سيد درويش الذين يقدمون ليلة من أغانيهم التراثية، ومحاضرتين تفاعليتين، الأولى للفنان أحمد حافظ عن تجارب سكندرية استلهمت موسيقى سيد درويش منذ الثمانينيات وإلى الآن، والثانية للفنان د. محمد حسنى عن المسرح الغنائى وتجربة سيد درويش فيه. ويعرض نادى سينما الجيزويت فيلم سيد درويش للمخرج أحمد بدرخان مع مناقشته بعد العرض، كما يعرض الباحث محمد أمين ثلاثة أفلام تسجيلية فى إطار ندوة حول محمد بيومى وسيد درويش وسياق ثورة 1919. وتقام ندوة حول عصر سيد درويش والمؤثرات الاجتماعية والفنية والشخصيات المهمة فى حياته يقدمها كاتب هذه السطور مع نرمين نزار وكريم جمال. كما تقدم مدرسة برفورم للفنون عرضًا مسرحيًا بعنوان خفيف الروح. ويقدم إسلام شبانة تجهيزا فى الفراغ بعنوان الذاكرة الشبحية لأصداء الجدران. 

الافتتاح.. اجعلها ليلة مملكة يا كريم!
ليلة 11 سبتمبر بكل أصدائها الكئيبة تأتى مع امتداد آثار عاصفة دانيال لتكتسى سماء الإسكندرية منذ الصباح بالغيوم والأتربة. الساعة السابعة إلا الربع أستقل سيارة أجرة مع صديقين فى طريقنا لحضور افتتاح الاحتفالية. على الكورنيش لا أستطيع تبين البحر، يختفى تمامًا وراء ستار ضبابى انسدل من السماء إلى الأرض.

نصل فى السابعة إلى المركز. ساحة الكافيتيريا الواسعة أمام مسرح الجراج بها عدد معقول من الحاضرين. نتبادل التحيات وأتنقل بين من أعرف من الأصدقاء إلى أن يدعونا المتطوعون إلى الاقتراب من مدخل القاعة الكبيرة أمام المسرح حيث يقف الأب ماريو بولس ليقدم الافتتاحية ويعلن بدء أول فاعلية وهى معرض فوتوغرافيا بعنوان (زمن سيد درويش) من تنظيم الفنانة ياسمين حسين التى استلمت من الأب ماريو الكلمة لتتحدث عن المعرض الذى يمثل بحثًا أرشيفيًا فى صور ثلاث مدن عاش فيها سيد درويش: الإسكندرية وحلب والقاهرة، حيث يقدم المعرض ملامح من الأماكن والناس والشخصيات البارزة فى هذه المدن الثلاث فى أواخر القرن التاسع عشر وحتى العقد الثالث من القرن العشرين عندما مات درويش (1892-1923). وبعدها دخل الحاضرون لمشاهدة المعرض والتجول بين الصور.

فى الثامنة إلا الربع يدخل الحاضرون الذين تزايد عددهم مع الوقت إلى مسرح الجراج لحضور الفاعلية الثانية: عرض (أنا عشقت) لفنان الأوريجامى والممثل والمغنى أسامة حلمى (ؤزؤز) الذى يمزج فيه بين الحكى والقراءات والسماع الموسيقى لمجموعة من أغنيات وألحان سيد درويش من أسطواناتها الأصلية والتسجيلات النادرة على جهازى جراموفون وفينيل من مقتنيات أسامة المولع باقتناء الصور واللوحات والتسجيلات القديمة سواء موسيقية أو حية وكذلك أجهزة الصوت. يبدأ أسامة بحكى كيف هدته هواية الاقتناء إلى اكتشاف كنز صغير: نيجاتيف زجاجى لصور جنازة سيد درويش التى لم يحضرها إلا عدد قليل من الأشخاص مع انشغال الناس باستقبال الزعيم سعد زغلول العائد من المنفى، والذى عاد سيد درويش من القاهرة خصيصًا ليكون فى استقباله منشدا ما لحنه له مع الجموع، لكن الموت كان له رأى آخر.

ينتقل أسامة إلى حكى محطات من حياة درويش معتمدا على مقاطع يقرأها مما عثر عليه من كتب ومقالات وشهادات لأسماء مثل زكى طليمات ويونس القاضى وحياة صبرى وصلاح عبد الصبور، وفاصلا بين المحطات المختلفة بأغنيات مختلفة من تراث درويش كأنها تعليق على الحكايات أو اشتباك معها. ثم فى إحدى المحطات يدعو الجمهور إلى غناء (الصنايعية) معه لتصل درجة تفاعل الحاضرين مع العرض إلى أقصاها، ويدعو أسامة الجمهور فى نهاية العرض إلى مشاهدة نيجاتيف زجاجى مكبر لصور الجنازة فى قاعة العرض، كأنهم يشاركون بحضورهم الأكبر فى جنازة فنان الشعب بعد مائة عام من جنازة لم يحضرها إلا قلة من هذا الشعب.

اليوم الثانى.. إيه العبارة؟
مع دخول المساء، انقشع التراب وصفا الجو وهبت نسائم خريفية مبكرة على طريق البحر. يخبرنى السائق الذى ركبت معه سيارته الأجرة أنه اشتاق إلى هذا الهواء وهذه الرائحة، لكن الرطوبة ما زالت خانقة. أصل إلى المركز قبل الثامنة موعد الحفل الذى يقدمه الفنان السكندرى ياسين محجوب وفرقته تحت اسم (إيه العبارة؟) إحدى أغنيات الراحل الكبير البديعة والمؤلمة والساخرة فى ذات الوقت. قدم ياسين سبع تراكات بأسلوب فرقته وغنائه الأقرب إلى أن يكون (روك عربي). حاول ياسين فى تجربته تقديم رؤية جديدة للموسيقى والتوزيع والغناء على خلفية بصرية من الفيديو آرت.

ومزج فى عدة تراكات بين أغنيتين، حيث مزج دنجى دنجى بطلعت يا ماحلا نورها وشاركته الغناء فى هذا التراك المغنية السودانية الشابة هديل الهادي، ومزج بين أغنيتى الحشاشين والكوكايين بطريقة حوارية لطيفة راقت لجمهور الحاضرين الذين فاض بهم مسرح الجراج. بل ومزج بين أغنية والله تستاهل يا قلبى وأغنية الشيخ إمام أنا أتوب، حيث رأى ياسين فى ذلك تعبيرا عن تأثير درويش فى الموسيقيين اللاحقين، وهو منهم.