يوميات الأخبار

عندما كانت الأربعون عاماً

أسامة عجاج
أسامة عجاج

فى حياة كل منا أيام لا تنسى، ومناسبات تبقى فى الذاكرة رغم مرور السنين فهى علامات بارزة فى مسار العمر، ولست استثناء من هذه القاعدة العامة، فما بالك إذا تعلق الأمر بالعمل الصحفى. 

فى منتصف يوليو من عام ١٩٨٣، كانت الخطوة الأولى على طريق طويل من العمل الصحفي، متخصصا فى الشأن العربي، زرت خلالها كل الدول العربية، قمت بتغطية أحداث مفصلية، شاركت فى مناسبات عديدة، ولعل نظرة واحدة على مسيرة الأربعين عاما اكتشفت بعدها أن جل الاهتمام كان على ثلاثة ملفات رئيسية، -دون إهمال لغيرها- لأسباب عديدة، فى مقدمتها، أنها مازالت مفتوحة، ولم تغلق بعد، والتطورات فيها شبه يومية، وهى الوضع فى العراق، والقضية الفلسطينية والأزمة الليبية.

مفتاح الجنة 

دائما ما يكون للبدايات طعم خاص، ووضع استثنائي، فأول رحلة خارجية كانت إلى العراق، بدعوة من وزارة الإعلام، لتغطية أعياد ثورة تموز (يوليو) عام ١٩٨٣، والتعرف على مجريات الحرب العراقية الإيرانية، والتى بدأت فى سبتمبر عام ١٩٨٠ خاصة أن حصيلة الرحلة كانت مبهرة بكل المقاييس، وعندما عدت إلى أوراقى عن هذه الرحلة، توقفت عند تقريرين، الأول عن تطورات المعارك على صعيد المواجهات العسكرية بين العراق وإيران، فى حرب مر عليها فى ذلك التوقيت ثلاث سنوات واستمرت حتى ١٩٨٨، حتى أطلق عليها الحرب المنسية، ولعل التقرير الثانى كان الأهم، الذى مثل لى تجربة صحفية وإنسانية غير مسبوقة، عندما قمت بزيارة لمعسكر للأسرى الأطفال من الإيرانيين فى منطقة الأنبار، وتحديدا فى مدينة الرمادي.. لم أنسَ هذا التقرير لأننى تقدمت به إلى أول دورة لجوائز نقابة الصحفيين، حيث تكونت لجنة التحكيم من أساتذة عظام، محمود عوض المشرف على المسابقة، ومعه الراحل العظيم الكاتب أحمد بهاء الدين وصلاح حافظ ومصطفى بهجت بدوي، وإبراهيم نافع نقيب الصحفيين فى ذلك الوقت، وحصلت على جائزة أفضل تغطية خارجية.

نهاية حرب 

وتعددت بعدها الزيارات، وكادت أن تكون شهرية، مع تطورات الأوضاع على جبهة القتال، حتى تصادف عودتى من إحدى زياراتى من جبهة القتال لرصد أحد المعارك للجيش العراقى فى يوليو ١٩٨٨، أن أعلن آية الله الخمينى القبول بقرار مجلس الأمن رقم ٥٩٨، حيث أصدر بيانا عبر الإذاعة متضمنا المقولة الشهيرة (ويل لى لأنى مازلت على قيد الحياة لا أتجرع كأس السم بموافقتى على اتفاقية وقف إطلاق النار)، فكان حدثا استثنائيا، وتم نشر التقرير، مدعوما بصور من المصور الفنان الراحل إبراهيم مسلم رفيق كثير من رحلاتى الخارجية، عبرت فيه عن (الأمل فى نهاية هذه الحرب المنسية) وصمت المدافع، أو يكون الإعلان الإيرانى مرحلة (التقاط أنفاس) و(استراحة محارب)، وزاد من أهمية الرحلة حوارى مع الرجل الثانى فى العراق طه ياسين رمضان نائب رئيس الوزراء، وكان الأول، بعد إعلان إيران القبول بقرار وقف إطلاق النار، وتناقلته وكالات الأنباء فور صدور عدد مجلة آخر ساعة، لم تنقطع زياراتى للعراق، وإن قلت بصورة ملحوظة بعد انتهاء الحرب، والغزو العراقى للكويت فى أغسطس ١٩٩٠، واحتلال أمريكا لبغداد فى مارس ٢٠٠٣، ولكنها كانت ضمن زيارة للأمناء العامين للجامعة العربية، الدكتور عصمت عبدالمجيد لمحاولة إقناع صدام حسين بالقبول بقرارات مجلس الأمن، والامتثال لها تفاديا للغزو، ومع عمرو موسى فى يناير ٢٠١١، أو لحضور القمة العربية فى بغداد فى مارس ٢٠١٢ مع الدكتور نبيل العربي. 

فلسطين على الخط 

تدخلت مشيئة الله، ليكون ١٩٨٣ عاما مفصليا فى مسيرتى المهنية، ففى نهايته تحقق لى أول تماس مباشر مع القضية الفلسطينية، عندما وفرت مصر الحماية للشهيد ياسر عرفات وقواته للخروج من مدينة طرابلس فى لبنان، بعد أن عاد مرة أخرى بعد الغزو الإسرائيلى للعاصمة بيروت فى يونيو ١٩٨٢، وجمعت كل الضمانات لعدم تعرض سفنه الثلاثة لأى هجوم إسرائيلى فى عرض البحر المتوسط، فى الطريق إلى مدينة بورسعيد الباسلة، حيث عشت تفاصيل زيارته الأولى لمصر، بعد عام ١٩٧٧، ولحظات لقائه مع شقيقته خديجة التى لم تغادر مصر، ومعها مسئولون مصريون وفى مقدمتهم السيد سرحان محافظ بورسعيد، وسمعت كلمات الشكر والثناء لمصر، وشعبها وقيادتها، فى الدعم التاريخى للقضية الفلسطينية، يومها استمرت السفن التى تقل القوات الفلسطينية فى طريقها لليمن، ونزل عرفات إلى بورسعيد، حيث التقى فى مقر الضيافة مع قادة فلسطينيين يعيشون فى مصر قبل لقائه فى قصر القبة مع الرئيس الراحل حسنى مبارك، وكانت هذه التغطية سببا فى نسج علاقة مع الرئيس الشهيد ياسر عرفات، استمرت حتى استشهاده، وبعدها تعددت الحوارات الخاصة واللقاءات العامة، وتغطية فعاليات فلسطينية مهمة، ودورات مجلس وطنى فى الجزائر، وفى تونس بعد انتقال منظمة التحرير الفلسطينية إليها، وفى غزة المشاركة فى تغطية دخوله القطاع، بعد التوقيع على اتفاقيات أوسلو، وإعلان قيام السلطة الفلسطينية، وكذلك فى المقاطعة مقر إقامته فى رام الله عند حصاره من قبل الإسرائيليين فى عام ٢٠٠٢. 

ولن أنسى فى مسيرة متابعتى للملف الفلسطيني، لقاءاتى فى مايو ١٩٩٢ مع أعضاء الوفد الفلسطينى إلى مباحثات السلام، حيث استضافت مصر ندوة موسعة، شارك فيها أعضاء الوفد من الجانب الفلسطينى ومجموعة من السياسيين والخبراء المصريين أصحاب الخبرة فى مجال التفاوض مع إسرائيل، ومنهم الدكتور مصطفى خليل، ، حيث أجريت حوارات مع أعضاء الوفد، الذين تحولوا إلى رموز فلسطينية، ومنهم الراحل صائب عريقات، وحنان عشراوى وفيصل الحسينى والدكتور نبيل شعت، وجاءت الندوة فى إطار الإعداد للرؤية الفلسطينية للمرحلة الانتقالية، ولدى الكثير من أسرار هذا الملف حتى الآن ولكنها المساحة.

ليبيا مؤخرا 

 وعلى العكس، جاء تعاملى المباشر بالملف الليبى متأخرا، وبدأ مع أول زيارة لى للعاصمة طرابلس فى أغسطس عام ١٩٩٠، ضمن وفد صحفى كبير ضم صحفيين مصريين وأجانب جاءوا من القاهرة، لتغطية مؤتمر صحفى للعقيد معمر القذافي، لطرح مبادرة خاصة بإيجاد حل لأزمة الغزو العراقى للكويت، تضمنت فى جوهرها الجمع بين الرئيس العراقى الأسبق صدام حسين والملك فهد، وكانت الزيارة وتغطيتى وتقريرى عن المؤتمر، سببا رئيسيا لصداقة طويلة مع أحمد قذاف الدم منسق العلاقات المصرية الليبية، وكان التقرير بعنوان (سر موقف القذافى المتوازن من أزمة الخليج) ونشر فى آخر ساعة نهاية أغسطس من نفس العام، ربطت فيه بين الموقف الليبى من الأزمة، والتغيرات على الصعيدين السياسى والاقتصادي، وبعدها تعددت زياراتي، وأتذكر منها زيارة فى مارس ١٩٩٢ بعد أزمة لوكيربى وإصدار مجلس الأمن قرارا بفرض حظر جوى على ليبيا، ومنع أى رحلات طيران منها وإليها، نتيجة عدم تسليم المشتبه بهما فى انفجار الطائرة الأمريكية فوق لوكيربي، والفرنسية فوق النيجر، عبدالباسط المقراحى والأمين خليفة فحيمية، -دون ذكر تفاصيلها- كلها ذات أهمية قصوى، منها مشاركتى ومعى اثنان من الزملاء، والدكتور عصمت عبدالمجيد ومعنا إبراهيم البشارى فى إبريل ١٩٩٤، والمشاركة فى جلسة رسمية كعضو فى الوفد، وعندما تم الانتباه لوجودنا فى إحدى الجلسات الرسمية، مما أثار نوعا من الارتباك، تدخلت يومها بالقول (للمجالس أسرار، ونحن هنا كأعضاء فى وفد رسمي، وليس بصفتنا كصحفيين..

وشاركت أيضا فى زيارة برفقة السفراء والمندوبين العرب فى الجامعة العربية لليبيا، قمنا خلالها بتفقد مصنع الرابطة فى «ترهونة»، لتفنيد مزاعم امتلاك ليبيا أسلحة كيماوية وجرثومية، ولقاء السفراء مع العقيد الراحل معمر القذافى، حيث مثل (شريط كاسيت) فى جهازى إلى مرجع للجميع، فى كتابة تقرير لحكومتهم حول ما جرى فى اللقاء، بعد أن وضعته مع بداية اللقاء دون أن يعترض القذافى.

وكان آخر عهدى بالسفر إلى ليبيا المشاركة فى قمتى سرت العربية فى مارس ٢٠١٠ والأفريقية فى أكتوبر من نفس العام، وأتذكر أنه بعد أحداث فبراير ٢٠١١، عادت إلى القاهرة السفيرة سلمى راشد، -وكانت صديقة عزيزة- لاستثمار علاقتها السابقة، عندما كانت سفيرة فى القاهرة ومندوبا دائما لبلادها فى الجامعة العربية، فى محاولة لتوضيح صورة ما يجري، ودعتنى إلى زيارة ليبيا عندما التقيت بها، فكان طلبى للاستجابة للدعوة، إجراء حوار صحفى مع القذافى أو ابنه سيف، وكان الأمر صعبا أو مستحيلا، فلم تتم الزيارة. 

وبعد،،، هذا جزء يسير، من رحلة طويلة من العمل فى الشئون العربية. 
صندوق الذكريات فيه الكثير، لعلنى أعود إليه يوما ما، أتمنى أن يكون قريبا.