من دفتر الأحوال

إشكالية العنف والضمير

جمال فهمى
جمال فهمى

كيف يمكن ان يكون العنف الذى تلجأ له احيانا بعض الجماعات التى تتبنى نظريات تصفها هذه الجماعات بأنها «نظريات ثورية» بحيث يكون هذا «العنف» ،  من وجهة نظرهم، «ثوريا» ومن ثم «عنف نبيل» ..كيف يكون العنف ايا ما كان تبريره النظرى واسبابه ،  بصيرا ونبيلا ؟  مع ان طبيعة القوة عموما غالبا ما تكون عمياء لحظة انطلاقها ويصعب جدا ان تميز بين هدف مقبول و مشمول بشرعية ما تسوغه ، وان تكون تلك القوة غاشمة عمياء تنحرف عن المسار والهدف المقصودين.


هذه المشكلة الأخلاقية والضميرية كانت موضوعا لمسرحية رائعة تحمل اسم « العادلون» ابدعها الكاتب والروائى الفرنسى الكبير ألبير كامو  (1913- 1960) الحائز على جائزة نوبل فى الأدب ،  أظن أن كثيرين ممن  يرددون الشعارات حول ما يسمونه العنف الثورى الذى يسوغونه وربما يستسهلون استخدامه لمقارعة الظلم والفساد والطغيان .. هؤلاء فى أمس الحاجة لأن يتمثلوا المعنى الانسانى الراقى الذى قالته هذه المسرحية بصراحة ووضوح ومباشرة قد يعتبرها نفر من المتحزلقين عيبا ينال من الفروق الواجبة بين المحاضرة أو الدرس السياسى وبين العمل الفنى الإبداعي.


اذن مسرحية «العادلون» موضوعها هذا «العنف الثوري» ، الذى هو مجرد وسيلة من وسائل  نضال متعددة لكن أهمية الرسالة التى أراد كامو (كفنان ملتزم وصاحب موقف نضالى أيضا) أن يبثها وينقلها على لسان الشخصية المحورية فى مسرحيته إلى جمهور القراء والمشاهدين .. هى باختصار ، أن الوسائل لابد أن تتسق شرفا ونبلا مع غاياتها ، وأن اسلحة الثوار يجب أن تبقى مثلهم ، طاهرة نقية وبريئة من أى استخدام خاطئ أو عشوائى يجعلها كبندقية عمياء لا تميز بين عدو وصديق  وآثم وبرئ.


 مسرحية «العادلون» تدور أحداثها فى روسيا القيصرية مطلع القرن الماضى وهم «إيفان» و»استيبان»والفتاة «دورا» ، وقد كلفوا جميعا من قيادة منظمة ثورية فوضوية ينخرطون فى عضويتها  (المنظمة «الاشتراكية الثورية») بمهمة اغتيال الدوق سيرج ، وتبدأ المسرحية بحوار تمهيدى يدور بين الثلاثة يكشف دوافعهم المختلفة للقبول بهذه «المهمة الثورية» ، إذ يقول إيفان أنه اختار العمل الثورى «لأننى أحب الحياة» ، غير أن استيبان يرد عليه معترفا بأنه لا يحب الحياة «بل أحب العدالة وأراها أسمى من الحياة بكثير» ، وعندما يأتى دور البوح على دورا تؤكد على ما قاله استيبان وتزيد واصفة حالها وحال رفاقها: «أننا قوم عادلون ولهذا نحن محكومون بأن نكون دائما أكبر من ذواتنا ومتعالين على عواطفنا..»


بعد هذا الحوار تنتقل بنا المسرحية إلى حيث يكمن الثوار الثلاثة على طريق سيمر منه موكب الدوق ، وفيما يظهر إيفان متخذا وضع الاستعداد لإلقاء قنبلة على الموكب يكون استيبان ودورا فى الخلفية يعملان على تغطيته وحماية ظهره أثناء تنفيذ العملية .. لكن فى اللحظة التى تلوح فيها عربة الدوق وهى تتهادى على الطريق ثم تمر فعلا أمام إيفان فإن هذا الأخير يفاجئ رفيقيه بأنه لم يفعل شيئا ولم يقذف القنبلة على الموكب .. لماذا؟! يسأله استيبان ودورا بدهشة وغضب فيرد عليهما بأن الدوق سيرج كان يصطحب معه أولاد أخيه الأطفال ، و»لا قضية فى الدنيا تبرر قتل أطفال أبرياء» ..هكذا قال إيفان.


يعاود إيفان ورفيقاه الكرة بعد يومين وتنجح عملية  قتل الدوق ، ويقع إيفان وحده فى قبضة البوليس ، وهناك فى سجنه تزوره الدوقة أرملة سيرج (التى يبدو أنها علمت بتصرفه فى المحاولة الأولى) وتصارحه بأنها عازمة على إنقاذه من عقوبة الإعدام ، بيد أن الشاب الثائر يرفض بحزم هذا العرض قائلا للدوقة أنه يريد أن يدفع حياته ثمنا لمعتقداته ، «لأننى إذا لم أمت فسأتحول من ثورى إلى قاتل...» !!