حديث الأسبوع

حينما تتحكم الخلفيات الدينية والسياسية فى إصلاح التعليم.. فرنسا نموذجًا

عبدالله البقالى
عبدالله البقالى

ثمة مفارقة مثيرة فى انشغالات الأوساط الفرنسية هذه الأيام بقضية تحظى بأهمية كبيرة لدى المجتمع الفرنسى و يتعلق الأمر بقضية التعليم. فمن جهة يعطى الرئيس الفرنسى ماكرون أولوية مطلقة لقضايا مرتبطة بالشكل، وتهم صلب الحرية التى تمثل ركنا رئيسيا من أركان شعار الجمهورية الفرنسية. حيث أصدر قرارات تطبق بصرامة شديدة، تتعلق بمنع ارتداء العباءة والحجاب فى المؤسسات التعليمية الفرنسية،  بمبرر أن هذا اللباس ( يمس بعلمانية الدولة ). كما تعتبر هذه القرارات «  التعليم المنزلى للأطفال ضارا بالمجتمع ، وأنه غير قانوني، و يطبقه غالبا أشخاص متطرفون دينيا «. 

وصرح الرئيس الفرنسى فى هذا الصدد لتبرير لا قانونية التعليم المنزلى قائلا «إن الإسلام يعيش اليوم أزمة فى كل مكان بالعالم، وعلى فرنسا التصدى للانعزالية الإسلامية الساعية إلى إقامة نظام موازى وإنكار الجمهورية الفرنسية «. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل سارعت السلطات الفرنسية إلى إعداد مشروع قانون ضد ما سمته ب «الانفصال الشعوري» يهدف إلى التصدى لمن تعتبرهم «يوظفون الدين للتشكيك فى قيم الجمهورية « .

هكذا إذن تبدو الرئاسة الفرنسية، ومن خلالها السلطتين التنفيذية والتشريعية فى بلاد ديغول، منشغلة بقضايا لا ترتبط بعمق أزمة التعليم فى فرنسا التى تزيدها السياسات العمومية هناك استفحالا وتعقيدا، بل تهم سلوكات فردية وجماعية تندرج فى صلب ممارسة الحرية .  

الجواب على طبيعة الأولويات التى يقدرها الرئيس الفرنسى والحكومة والبرلمان الفرنسى فى مجال قضية مركزية فى حجم التعليم جاء عبر رسالة هامة أولتها جريدة ( لوموند ) الفرنسية أهمية بالغة بنشر تفاصيلها فى إحدى أعدادها الأخيرة، وجهها مجموعة من الفنانين والكتاب والفلاسفة والصحافيين إلى وزير التربية الوطنية فى الحكومة الفرنسية استعرضت الاختلالات العميقة فى قطاع التعليم، وكشفت من جهة ثانية عن البون الشاسع فى تشريح مكامن الداء فى قطاع التعليم بين السلطات العمومية الفرنسية وجزء مهم وكبير جدا من النخبة الفرنسية . 

وخاطبت الرسالة الوزير الفرنسى بالقول إن «نسبة كبيرة من أطفالنا لم تعد تقرأ وتجد صعوبة كبيرة فى الكتابة، وأنهم يكافحون من أجل التعبير عن أفكارهم وتحرير موضوع يتعلق ببيئتهم .»

وأضاف أصحاب الرسالة بالقول « إننا نجد صعوبة فى تفسير ما يقع. فتدهور المستوى الأكاديمى فى القراءة و الكتابة، أمام سيطرة التطور التكنولوجى على عقول وأدمغة أطفالنا، يجعلنا نتساءل أى مكانة للمدرسة فى ظل هذا التفاوت الرقمي» معبرين عن تخوفاتهم من خطر توسع الذكاء الاصطناعى الذى بات يكتسح المجال الانساني. واعتبروا أن الإملاء اليومى الذى عمدت بعض المؤسسات الفرنسية إلى برمجته ضمن الحصص اليومية من أجل تحسين اللغة الفرنسية ، لا يمكن أن يمثل الحل للأزمة القائمة ، إذا لم يتم دمجه فى جدول تعليمى محكم، وفى إطار بيداغوجية سلسة مواكبة للتطور. وانتقد موقعو الرسالة البرامج التعليمية المثقلة التى يتم شحن التلاميذ بها حيث « يجد المعلم نفسه عاجزا عن توجيه فصل دراسى يضم أكثر من ثلاثين تلميذا  بالشكل الذى يلائم الضعف اللغوى والكتابى عند كل تلميذ وخاصة مع كثرة المواد التعلمية وطولها «. 

ونبه الموقعون على الرسالة إلى الوضعية المقلقة التى يوجد عليها المعلمون والأساتذة داخل المؤسسات التعليمية الفرنسية، بسبب تغيبهم، ولذلك طالبوا بضرورة الاهتمام بأوضاع هؤلاء والرقى بالمدرسة التعليمية، واقترحوا فرض وقت إلزامى لا يقل عن ثلاثين دقيقة يوميا للكتابة الإبداعية والتعبير الحر للتلاميذ، والعمل فى إطار مجموعات صغيرة يقودها فلاسفة وعلماء وصحافيون وفنانون و ما إلى ذلك، لدعم المعلمين وتطوير التفكير النقدى لديهم .

من جهته انتهز صحافى فرنسى مشهور ( ماتيو بيلبار ) أجواء هذا النقاش، و كتب مقالا فى جريدة ( لوفيغارو ) الفرنسية ناشد من خلاله الرئيس الفرنسى احترام قيم الحرية، وأعرب عن صدمته لما تضمنه خطاب الرئيس الفرنسى الذى اعتبر فيه التعليم المنزلى « مضرا بالمجتمع «، و قال إنه اختار فى كنف الحرية تعليم أطفاله فى المنزل منذ سنة 2006.

و اعتبر فى مقاله الذى صاغه فى شكلٍ رسالة موجهة إلى الرئيس ماكرون أن « المدرسة لا تمنح الطفل مزايا التربية الأسرية ، فالأسرة تنمى حس الاستقلالية فى العمل، و تثير لدى الأطفال الفضول والرغبة فى التعلم وتغرس فيهم حب العمل « ويرد على مبررات ماكرون بالقول إن أطفاله « ليسوا معزولين ويحظون بفرصة للتواصل مع الآخرين وتكوين صداقات مع أطفال من خلفيات اجتماعية و ديانات مختلفة و يخرجون إلى النزهات والمعارض ويشكلون مع أصدقائهم مزيجا عرقيا يكاد يختفى فى المجتمع المعاصر « .

والواضح أن الصحافى صاحب المقالة لم يدرك أنه غير معنى بقرارات الرئيس ماكرون التى تقتصر على فئة معينة من أفراد المجتمع بخلفيات دينية و سياسية صرفة .

هكذا يتباين النقاش العمومى فى فرنسا فى شأن  قضية اجتماعية بالغة الأهمية، بين حاكمين مهووسين بالخلفيات السياسية والعقائدية، ويحصرون الإصلاح فى القشور والشكليات و لا يهمهم فى ذلك ما إذا كانوا يدوسون على مبدأ الحرية فى الاختيار وفى اللباس، الذى يشكل ركيزة أساسية فى عقيدة الثورة الفرنسية ، و بين رأى عام ينشغل بالجوهر و بعمق الإشكالية  و بتشريح جسد الأزمة المستفحلة ، و يلحون فى المطالبة بمعالجة الاختلالات التى دفعت بالتعليم فى فرنسا إلى مراتب متأخرة جدا فى تصنيفات المنظمات الدولية المختصة .

قد يكون هذا الاختلال فى التشريح والتحليل فرصة لكثير من حكوماتنا فى البلدان العربية للاقتناع بأن النموذج التعليمى الفرنسى الحالى لا يمكن أن يصلح نموذجا يقتدى به فى سياساتنا التعلمية العمومية .

نقيب الصحفيين المغاربة